You are here: الصفحة الرئيسة

Harakat Al-Shaab - حركة الشعب -لبنان

زياد الرحباني... أول مراجعة جذرية للحرب الأهلية

إرسال إلى صديق طباعة

تعود مسرحية «فيلم أميركي طويل» لزياد الرحباني الى الجمهور من خلال الشاشة الكبيرة، للمرة الأولى، بعد عرضها عام 1980 على مسرح «جان دارك». إنّه العمل الثاني بعد «بالنسبة لبكرا شو» الذي راهنت شركة M Media على مجهود ترميمه.

ينقل العمل المسرحي يوميات مقيمين في مستشفى الأمراض العصبية في ضاحية بيروت الجنوبية خلال الحرب الأهلية. عوارضهم المشتركة، آثار الحرب الدائرة خارج جدران المشفى. يشكّل العرض السينمائي فرصة ثانية لمن لم يشاهد المسرحية أو يسمعها كاملة، فعادة بثّ مقاطع قصيرة أو جُمل من مسرحيات زياد على الإذاعات اللبنانية، أساءت إلى مضمون هذه الأعمال وقيمتها.
خاضت هذه المادة الخّام التي صوّرتها أيضاً ليال الرحباني شقيقة زياد، المسار نفسه التي خاضته «بالنسبة لبكرا شو» في رحلة الترميم في الصوت والصورة. لكن ظروف تقنية معيّنة أسهمت في أن تكون نسخة «فيلم أميركي طويل»، جيدة جداً – ودائماً مقارنة مع الحالة التي وجدت فيها – صوتاً وصورة، بحسب محمد حمزة من شركة «أم ميديا». يقول حمزة لـ «الأخبار» إنّ «المّادة أصلاً أحدث بسنتين، وظروف الإضاءة الأصلية للمسرحية وطريقة التصوير ساعدا جداً». وتابع أنّه ذهب بالمادة مرة جديدة إلى استديو رالف كسلر في ألمانيا للعمل على الصوت من جديد بعد الأخذ ببعض الملاحظات حول عرض «بالنسبة لبكرا...» التي حققت بدورها 155 ألفاً على شباك التذاكر في الصالات اللبنانية. مع التذكير بأنّ تصوير العملين كان لأهداف خاصة بزياد الرحباني بهدف مراقبة الأداء، ولم يكن مقرّراً يوماً عرضهما على الشاشة، إلى أن تمكن إيلي خوري من إقناع زياد بعد سنوات من المحاولة.
لا تخلو هذه النسخة أيضاً من بعض اللحظات القصيرة التي تسوء فيها حالة الصورة أو الصوت، لكنها أيضاً تعطي صورة عن المجهود الذي بُذل لإنقاذها وتقديمها نسخة متكاملة لا كاملة، لأنها نسخة 100 دقيقة مخصّصة للعرض السينمائي. وأكّد محمد حمزة أن هذه النسخة المخصصة للشاشة الكبيرة، لا تؤثر بدورها في مجرى القصة وهي تمّت بإشراف زياد الرحباني. علماً أن زمن المسرحية يقارب ساعتين وربع الساعة، وهي ستتوافر كنسخة كاملة على موقع «أم ميديا» لاحقاً.


شخصيات هذه المسرحية تعيش بدورها الحرب التي تدور خارج المستشفى، ليست منفصلة عنها لا بفعل الجدران، ولا بفعل جلسات العلاج أو الأدوية. لكن في الحرب المشتركة، لكلّ همّه: أستاذ عبد، أستاذ جامعي مهووس بكشف أسباب الحرب، يحاول ترتيب الأحداث والأسباب من بدايتها بشكل منطقي. نزار ابن الحركة الوطنية، بدوره لم يعد يفهم شيئاً، اختلطت عليه الأمور بعدما وجد نفسه في «نفس الخندق مع الرجعية العربية» التي كانت تموّل «حركات التحرّر العربي». أبو ليلى وعمر يجدان في التأهيل من المخدرات واقع الحرب الأكثر تضليلاً من المخدرات نفسها، وزافين الأرمني الذي أصبح معروفاً لدى الجمهور باسم «ستيريو» أيضاً، تائه في هويته وانتمائه في عزّ أيام طلب الهوية وإثبات الانتماء. قاسم المتوجّس القلق من العبوات المتنقلة والرصاص الذي لا يهدأ، ادوار تركبه فكرة أنّ المسلم يريد التخلّص منه، هاني الخنوع الفاقد لشخصيته على حواجز الميليشات، والممرّضات والموظفون والطبيب النفسي الذين يشاركون المرضى يومياتهم ويشرفون على علاجهم، لكلّ من هؤلاء أيضاً صلة ما مع ما يدور في الخارج.
في المجريات، تحاول هذه الشخصيات أن تخوض نقاشاً في العام وفي التفاصيل، حول الحرب والانقسام والأسباب، لنكتشف أن هذا الجدل لم يختلف بين الأمس واليوم، حملته الأجيال الأخرى، بالحجج والبراهين والروايات والتحليلات نفسها.
يلفت زياد الرحباني (رشيد) الى انتهازيي الحرب والمستفيدين منها بدءاً من زعيم الحيّ أو مسؤول المنطقة كما يسمّى في قاموس الحرب، أي «أبو الجواهر». تنشط المصالح الصغيرة والكبيرة خلال الصراع اليومي الدائر، فتزدهر محلات اللحم بعجين والبليار، بينما المدافع منصوبة والمناطق مقسومة، والشباب يدافع عنها ويموت، والليرة «ما أحلاها بتقطع من هون لهونيك».
يقدّم الرحباني أيضاً واحدة من أولى المراجعات لدور الأحزاب اليسارية والتقدميّة أو تلك التي صنّفت نفسها «وطنية» آنذاك من خلال نزار ابن الحركة الوطنية. الجدل حول «الوطنية» أيضاً مستمر إلى اليوم.
من الناحية الفنية، يظهر تصوير المسرحية قدرات جميلة لدى شخصيات صعدت الخشبة للمرة الأولى، أو كانت في بداية مشوارها، وتذكّر مرة جديدة بأهمية ما قدّمه الراحل جوزيف صقر للمسرح والموسيقى.
أما الممثلون فهم: جوزيف صقر (أبو ليلى) بطرس فرح (قاسم)، بيار جمجيان (الحكيم)، رينيه الديك (سيدة)، منى سعيدون (عايدة)، ابراهيم جابر (فرج)، كارمن لبس (نجاة)، توفيق فروخ (عمر)، محمد كلش (نزار)، جمانة نعماني (زهرة)، لميا أبو شقرا (فاطمة)، فؤاد حسن (فواز)، رفيق نجم (عبد الأمير)، غازاروس ألطونيان (زافين)، سامي حوّاط (هاني)، زياد أبو عبسي (إدوار)، وأخيراً زياد الرحباني بدور رشيد وهو المؤلف الموسيقي والكاتب والمخرج للعمل.
محمد همدر
جريدة الاخبار -
العدد ٣٠١٥ الاثنين ٢٤ تشرين الأول ٢٠١٦

دفعة جديدة من النازحين تغادر عرسال

إرسال إلى صديق طباعة

تُعقد في الجرود العرسالية مفاوضات تصلُح لأن تكون مدخلاً لحلّ أزمة النازحين السوريين في لبنان إذا ما تمّ تلقّفها. إذ تتحضر دفعة ثانية من العائلات السورية المقيمة في مخيمات عرسال للعودة إلى بلداتها، بتسهيلات من الدولة السورية، فيما السلطة السياسية اللبنانية غائبة تماماً

رضوان مرتضى

لن يكون الـ 162 نازحاً سورياً الذين غادروا مخيمات عرسال السبت الماضي، باتجاه بلدة عسال الورد في جبال القلمون السورية، الوحيدين الذين سيعودون إلى بلدهم.

إذ كشفت مصادر أمنية لـ«الأخبار» عن دفعة ثانية من النازحين المقيمين في مخيمات عرسال في البقعة الجردية المتاخمة للأراضي السورية، تتألف من نحو 500 نازح سوري، يتهيّأون لترك عرسال نهائياً للعودة إلى قراهم. وتشير المصادر إلى أنّ الدفعة الأولى من النازحين الذين انتقلوا إلى بلدة عسال الورد السورية الأسبوع الماضي أبلغوا ذويهم عن تسهيلات كبيرة قدّمتها الدولة السورية لهم بعد المصالحة التي عُقِدت، كاشفين عن إيجابية كبيرة في التعامل من قبل الطرف السوري. وقالت المصادر إن الجانب السوري كان مهتماً جداً بعودة كل عائلة تملك منزلاً إلى بلدتها، وعرض تقديم تسهيلات بخصوص الخدمة العسكرية للعائدين، كأن يكون مركز خدمتهم في البلدة التي انتقلوا إليها. وتكشف المصادر أن هناك رغبة حقيقية لدى نازحين كثيرين بالعودة إلى قراهم، لكن السلطة السياسية اللبنانية غائبة تماماً عن هذا الملف. وفيما يسهل الجيش اللبناني عودة النازحين إلى قراهم، إلا أن السلطة السياسية تتعامل مع الأمر بسلبية وتجاهل كاملين. ورغم أن عدد العائدين بسيط للغاية نسبة إلى العدد الهائل من النازحين السوريين في لبنان، إلا أن ما جرى يصلح لأن يكون مدخلاً لحل أزمة النازحين، ولو جزئياً، إذا ما تلقفته الدولة اللبنانية.

وتجدر الإشارة إلى أنه لو وجدت الدفعة الأولى من النازحين الجو غير مؤات في البلدات التي عادوا إليها، لما كانوا أبلغوا الباقين من ذويهم باللحاق بهم، علماً بأن ضامني الاتفاق هم فاعليات منطقة القلمون وعدد من مشايخها الذين يتولون التفاوض بين الدولة السورية، ومجموعات «سرايا أهل الشام» التي تقاتل تنظيم «داعش» في جرود عرسال، دفاعاً عن مخيمات النازحين التي يحاول التنظيم احتلالها. وقد انتقل أحد المشايخ من سوريا إلى جرود عرسال قبل أيام، لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق.
وفي هذا السياق، قال المفاوض الأساسي في هذه القضية، أبو طه العسالي، لـ«الأخبار» إن الدفعة الثانية من النازحين ستنتقل الى الأراضي السورية خلال أيام عيد الفطر المبارك. وكشف أن البلدات التي ستنتقل إليها العائلات هي عسال الورد والجبة والمعرة ويبرود، مشيراً إلى أن الدولة السورية تلعب دوراً إيجابيا كبيراً. وأكّد أن المرحلة الأولى (التي جرت الأسبوع الماضي) «كانت مشجعة»، ما دفع نازحين آخرين الى اتخاذ قرار بالانتقال الى الداخل السوري.
مع بدء الأزمة في سوريا، كان تيار المستقبل وفريق قوى ١٤ آذار متماشيين مع السياسة الخليجية والتركية والأوروبية والأميركية التي كانت قائمة على تشجيع السوريين على مغادرة سوريا لخلق أزمات أكبر، في محاولة لتضخيم الأزمة السورية وتدويلها. هذا التوجه كان قائماً بقوة في السنوات الأولى للأزمة السورية، لكن الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة خلال الأشهر الأخيرة قلبت الآية. فالدول الأوروبية اكتشفت أن النزوح السوري يمكن أن يتحوّل إلى عبء عليها. وفي لبنان، باتت جميع القوى السياسية، وعلى رأسها تلك التي شجّعت النزوح السوري، تعتبره تهديداً كارثياً للبنان. حتى رئيس الحكومة، سعد الحريري، خرج في آذار الماضي ليعلن أن النزوح السوري يمكن أن يتحوّل إلى «كارثة على الجميع». لكن أحداً من المسؤولين لم يحرك ساكناً لتشجيع النازحين على العودة إلى بلادهم، أو على الأقل، لتسهيل عودة الراغبين بذلك.
فالعقدة الأساس لعدم تعميم ما يجري في عرسال، بحسب مصادر متابعة للملف، تتمثّل بعدم رغبة السلطة السياسية في التواصل مباشرة مع الدولة السورية. ويمكن تجاوز ذلك من خلال طلب «وساطة» حزب الله، أو تكليف المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم إدارة هذا الملف، طالما أنه سبق أن تواصل مع الجانب السوري في أكثر من ملف أمني وإنساني.
تجدر الإشارة إلى أنه بعد إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في 13 أيار الماضي، عن بدء مقاتلي الحزب تفكيك مواقعهم في جرود السلسلة الشرقية لجبال لبنان، بدأت المفاوضات مع «سرايا أهل الشام»، وبرعاية فاعليات من القلمون، لعودة العائلات النازحة من المخيمات العرسالية.

 

يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | radwanmortada@
سياسة
العدد ٣٢٠٢ الجمعة ١٦ حزيران ٢٠١٧

تقدير استخباري إسرائيلي: يجب الانخراط بإسقاط الأسد

إرسال إلى صديق طباعة

عرض مركز أبحاث الأمن القومي في تل أبيب فرص وتهديدات التدخل الروسي في سوريا على إسرائيل، وسيناريوهات التدخل ونتائجه ومحاذيره، مع التنويه بالضرورة الاستراتيجية لإسقاط النظام السوري، وبالتالي إضعاف حلفائه، لكونهم يشكّلون التهديد الأعظم على إسرائيل في الساحة السورية

يحيى دبوق

 لم يصدر عن إسرائيل الرسمية، إلى الآن، موقف واضح إزاء التدخل العسكري الروسي في سوريا. بدا واضحاً أنّ قرار تل أبيب يقضي بعدم الإدلاء بموقف، والاكتفاء بحد أقصى، على توصيف الأوضاع وتقدير مآلاتها الميدانية. صحيح أنها كانت أول من أعلن التدخل الروسي وحجمه وأهدافه المباشرة، بل سارعت قبل الجميع إلى موسكو للحدّ من تداعيات التدخل على مصالحها، إلا أنها حرصت وما زالت، على تفادي أي انتقاد رسمي للروس.

من هنا تأتي أهمية عرض مضمون تقرير، يمكن وصفه بـ«تقدير وضع»، صدر أمس عن مركز أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، لم يكتف بعرض الواقع السوري وتوصيفه في أعقاب التدخل الروسي، بل أيضاً في تقدير نتيجة التدخل وسيناريوهاته المتعددة، وموقف إسرائيل من كل منها، مع التوصية بضرورة الانخراط مع الجهات الإقليمية والدولية في السعي نحو إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وضرب «المحور الراديكالي»، الذي يشكل التهديد الرئيسي والاستراتيجي لإسرائيل.
وأهمية التقرير، أيضاً، أنه يأتي في ظل «سوء فهم وسوء تفهيم»، مقصودين، لموضوع «آلية التنسيق» المعلَنة بين تل أبيب وموسكو بشأن سلامة التحليق الجوي وأمن الطائرات الحربية فوق السماء السورية، التي حاول البعض تظهيرها وكأنها شراكة إسرائيلية روسية في العمليات الحربية والقصف الجوي للمسلحين في سوريا، بل وصل الأمر بالبعض إلى حد تظهير ذلك وكأنه تنسيق بين محور المقاومة وإسرائيل، الأمر الذي ينمّ عن خلطة من الجهل و«التخبيص» وتسخيف العقول.
صاغ التقرير الرئيس الحالي لمركز أبحاث الأمن القومي، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، اللواء عاموس يدلين، الذي يعدّ من أبرز الباحثين في الشأن العسكري والاستراتيجي في إسرائيل. وأبرز ما جاء في التقرير:
الدخول الروسي إلى المعلب السوري يشكل تحولاً في الديناميكا المعقدة في سوريا وفي الشرق الأوسط. وهذا التحول لا يستند بالضرورة إلى مواجهة الروس لتنظيم «داعش»، رغم أنه شعار التدخل الروسي في سوريا، بل يستند إلى الآثار والتداعيات المحتملة للمسار الروسي في هذا البلد، وعلى المنطقة وإسرائيل.

"وضع التقرير أربعة سيناريوهات محتملة كهدف استراتيجي للعمليات الروسية"

من منظور الحكومة الإسرائيلية، إن أخطر التحديات في الساحة السورية يتمثل في حزب الله وإيران، فيما التحديات الكامنة من جهة نظام الأسد وتنظيم «داعش»، في مستوى أقل. مع ذلك، يجب أن ينظر إلى تهديد الأسد دون الاقتصار على حجم التهديد المباشر الذي يشكله على إسرائيل، بل إلى كونه (النظام) يسمح لحزب الله ولإيران بالتعاظم في سوريا، واقتلاع هذا النظام هو المفتاح لإضعاف «المحور الراديكالي».
المنطق الكامن وراء المسار الروسي في سوريا وأهدافه الاستراتيجية وحجمه ومداه، غير واضح بما فيه الكفاية، غير أن الواضح هو أنه يضع إسرائيل أمام واقع يفرض عليها إعادة دراسة كيفية مواجهة التحديات، إضافة إلى دراسة الفرص الكامنة فيه.

التدخل الروسي وأهدافه الاستراتيجية

مشاركة روسيا في سوريا أثارت جدالاً بين الباحثين والسياسيين، وتحديداً ما يتعلق بأهدافها الاستراتيجية والأسباب التي دفعت موسكو إلى التورط عسكرياً، بل وإلى التورط بشكل علني وواضح وفظ، على نقيض من سياستها المتبعة في الماضي تجاه سوريا. ولم تكتف روسيا بدعم الأسد من خلال تزويده بالسلاح والمستشارين والمظلة الدبلوماسية. وهناك مقاربتان لهذه المسألة:
المقاربة الأولى ترى أن إنقاذ الأسد ليس إلا ذريعة لهدف استراتيجي أكبر، يقوم على أساس سعي روسي للتموضع كدولة عظمى عالمية. ووفقاً لهذه الرؤية، فإن موسكو معنية بالتحول إلى «لاعب مفتاح» وأساسي في الشرق الأوسط، انطلاقاً من فرضية الضعف المتواصل للولايات المتحدة. أما المقاربة الثانية، فترى أن التدخل الروسي يهدف إلى إعادة الاستقرار إلى سوريا عبر المحافظة على نظام الأسد، والإضرار بصورة كبيرة بتنظيم «داعش»، وأيضاً تقليص تهديد «الجهاديين» على روسيا. والمقاربتان تنطلقان على حد سواء، من اعتبارات تتعلق بالأزمة الاقتصادية في روسيا والجمود في أوكرانيا، ورغبة موسكو في كسر العزلة الدولية ورفع العقوبات عنها.
توجد أربعة سيناريوهات محتملة كهدف استراتيجي للعمليات الروسية في سوريا:
(1) سوريا الصغيرة جداً: أي ضمان سيطرة الأسد على «الدولة العلوية» في غرب سوريا، مع الحفاظ على مصالح الحد الأدنى لروسيا – الموانئ على البحر المتوسط. إلا أن حجم القوة الروسية على الأراضي السورية، يشير إلى أن الروس يتطلعون الى نطاق اوسع من ذلك.
(2) سوريا الصغيرة: حفظ نظام الأسد بما يشمل أيضاً دمشق وحمص وحلب وحماه، مع تركيز الجهد القتالي المشترك ضد قوى المعارضة في شمال وشرق سوريا. التقارير الواردة عن قوة سلاح الجو الروسي والقوات الخاصة قد ترجّح هذا السيناريو.
(3) سوريا عام 2011: عودة نظام الأسد للسيطرة على كل الجغرافيا السورية كما كانت عليه عام 2011. بمعنى تحقيق نصر حاسم على المعارضة وإلحاق الهزيمة العسكرية بتنظيم «داعش» وبما لا يعد ولا يحصى من الميليشيات المعارضة للاسد. الا ان هذا الهدف يتطلب من روسيا ارسال مزيد من القوات الى سوريا، بما يشمل قوات برية، وتفعيل مستوى عال من التنسيق مع شركائهم على الارض.
(4) سوريا من دون الاسد: رغم ان موسكو تعمل على المحافظة على نظام الاسد وفقاً للسيناريوهات الثلاث السابقة، لا يمكن ان نستبعد امكانية ان تقبل باتفاق يدعو الى استبدال الاسد رئيساً لسوريا (قد يتبلور ذلك في مؤتمر جنيف 3، هذا اذا عُقد او عندما يعقد). الا ان هذا السيناريو يتضمن المحافظة على اجزاء واسعة من نظام الاسد. وفي هذا الاطار، تجري المحافظة ايضاً على اجهزة الدولة بمشاركة من الطائفة العلوية التي بدورها ستحظى بحماية من قبل جهات في «المحور الراديكالي». وهذا كله مع ضمان المصالح الروسية في سوريا، وايضاً التأكيد لمكانتها كلاعب مركزي في بلورة سوريا المستقبلية.
ما زال الوقت مبكراً كي نحدد هدف التحرك العسكري الروسي. علماً ان حجم القوة العسكرية الروسية العاملة حتى الآن في سوريا، تشير الى السيناريو الثاني (سوريا الصغيرة). ويمكن في مرحلة لاحقة، ان يسعى الروس ايضاً الى تنفيذ السيناريو الرابع، اي سوريا من دون الاسد. الا ان السيناريوهات الاربعة مقلقة لإسرائيل، لأنها جميعها تتضمن المحافظة على الوجود والنفوذ الايرانيين في سوريا. مع ذلك، السيناريو الاول (سوريا الصغيرة جداً)، يعني ان إيران ستكون بعيدة عن حدود إسرائيل، اما السيناريو الرابع (سوريا من دون الاسد) فإن النظام الجديد بقيادة سنية، لن يشجع التعاون مع ايران وحزب الله.

التحديات والفرص لإسرائيل

امتنعت اسرائيل عن التدخل في الحرب السورية منذ بداياتها. وعملت فقط ضد نقل أسلحة متطورة إلى حزب الله. هذه السياسة كانت اشكالية، ومن الناحية الامنية، بقاء نظام الاسد ادى الى تعزيز وجود حزب الله وايران في سوريا، وعلى وجه الخصوص في الجولان. واذا كان من المأمول في السابق ان يسقط النظام نتيجة الاحداث (القتال) من دون تدخل اسرائيلي، الا ان التدخل الروسي الى جانب الاسد، ازال هذه الفرصة.
لجهة تحليل مستوى التهديدات، يُعدّ تنظيم «داعش» في هذه المرحلة بعيداً عن حدود اسرائيل وقدراته العسكرية محدودة، وفي الوقت الحالي لا يشكل تهديداً استراتيجياً. في مقابل ذلك، حزب الله الذي بات يملك قدرات متطورة تسمح له باصابة كل نقطة في اسرائيل بصواريخ بعيدة المدى، قد يستفيد من الخطوة الروسية في سوريا عبر انزلاق السلاح الى ترسانته، او عبر تزويده بها، عن قصد.
في ما يتعلق بايران والاسد، التدخل الروسي يعزز «مرة جديدة» ضرورة دراسة القضية على مستوى المنظومة، وليس على مستوى اللاعب الوحيد. اي على مستوى «المحور الراديكالي» الذي يضم ايران وسوريا وحزب الله، في حين ان روسيا تُعد على الاقل في هذه المرحلة، الجهة التي تؤمن الرعاية لهذا المحور...
إذا تحقّق احد السيناريوهات الثلاثة التي ذكرت اعلاه، فهذا يعني ان نظام الاسد باق، وستجد اسرائيل نفسها في وضع استراتيجي متدن، كما ان المشاركة الروسية يمكن ان توفر لإيران وسوريا مشروعية في السنوات المقبلة، اضافة الى وجود قوات حزب الله المجهزة بالاسلحة الروسية المتطورة في سوريا.
إلا أنّ التدخل الروسي أوجد لإسرائيل فرصتين. تتمثل الاولى في تعزيز الشراكة الاسرائيلية مع الدول السنية في المنطقة، وعلى رأسها السعودية وتركيا، بشراكة وقيادة اميركية. فالغضب والاحباط لدى هذه الدول يمكن ان يُظهّر إسرائيل كثروة استراتيجية لديها. وثانياً، في حال عدم نجاح الائتلاف الغربي ضد الاسد و«داعش»، على إسرائيل أن تسعى الى تنفيذ السيناريو الرابع، بإيجاد سوريا من دون الاسد، مع اتفاق شراكة مع روسيا.
في كل الاحوال، على إسرائيل أن تنخرط في الجهود الفعالة لاسقاط نظام الاسد، ذلك ان اسقاطه يدفع المكانة الاستراتيجية لإيران وحزب الله إلى الحضيض، وإلى مستوى متدن جداً.

سوريا

العدد ٢٧١٩ الثلاثاء ٢٠ تشرين الأول ٢٠١٥

 

فصائل الشمال السوري: إغراء.. اندماج.. وفتنة!

إرسال إلى صديق طباعة

عبد الله سليمان علي

لم يُحرج التورطُ الأميركي والتركي في شمال حلب الفصائلَ المُسّلحة فحسب، بل بات بعد تصاعده يُهددُّ بقلب المعادلة التي كانت تحكمُ العلاقة بين هذه الفصائل، معيداً إياها إلى مُربّع الاقتتال.
مساعي الاندماج انهارت على خلفية الفتاوى المتباينة حدّ التناقض بخصوص الموقف من القتال مع التركي أو الأميركي. واندلاع الفتنة بين «جند الأقصى» و«أحرار الشام» ليس بعيداً عن التأثر بهذه «النازلة» كما أسماها بعض المفتين، ناهيك عن حديث بعض النشطاء أن هذه الفتنة جاءت نتيجة إيحاءاتٍ خارجية صريحة. أما التسريباتُ الأخيرة حول قرب الاندماج بين ثلاثة فصائل كبرى أيّدت كلٌّ منها عمليةَ «درع الفرات»، وحثّت على المشاركة فيها، فتُشّكل دليلاً قاطعاً على أن الغزو التركي بمشاركة أميركية، هو محور كل هذا التخبط الذي تعيش الفصائل في ظلّه، وبات يهددها بجولة جديدة من الاقتتال بين بعضها بعضاً.
وقد اضطر أبو يحيى الحموي، القائد العام لحركة «أحرار الشام»، أن يخرج مرتدياً بذلته العسكرية، لإعادة تصويب الصفقة التي تمت مع «جبهة النصرة» بخصوص «جند الأقصى»، والتي شعرت قيادة الحركة أنها تسببت لها بمشكلة داخلية، نتيجة رفض العديد من قادتها العسكريين لها، فضلاً عن مشكلة مع باقي الفصائل التي سارعت للوقوف بجانبها ضد «جند الأقصى»، التي شعرت بالخيبة نتيجة صفقة الحل التي صبّت بمجملها في صالح «النصرة» التي ازدادت قوةً وعديداً بعد مبايعتها من قبل «الجند». غير أن خروج قائد الحركة بنفسه بعد توقيع الاتفاق، وهو الذي اكتفى قبل توقيعه بنشر تغريدات على «تويتر» بينما كان القتال محتدماً في أرياف إدلب، أثار العديد من الشكوك حول سبب هذه الحماسة، وعما إذا كان الخطاب المُصّور الذي وُصِف بأنه «ناري» موجهاً إلى الحركة والفصائل و «جبهة النصرة»، أم إلى الدول الداعمة؟
وقال عبد الله الحموي في كلمته إنه تمّ القضاء على فصيل جند الأقصى «إنهاءً كاملاً»، وأن «العمل جارٍ على ملاحقة قادته ورؤوس الغلو فيه»، واصفاً إياه بـ»الشرذمة النجسة». وحذّر من محاولة عناصر «الجند» إعادة تجميع أنفسهم مرة ثانية قائلاً: «إنّا إن لمسنا من بعض عناصر العصابة المحلولة غدراً أو تهرباً أو مماطلة أو محاولة لإعادة تجميع أنفسهم، فلن نتوانى بعون الله عما ابتدأناه من استئصالهم».
هذا التصعيد الكلامي استدعى رداً مماثلاً من حسام الشافعي، المتحدث الرسمي باسم «جبهة النصرة»، الذي فهم الرسالة الموجهة إلى جماعته، فقال «عذرًا أيها الشيخ الكريم، فإننا لم نقبل بيعة «شرذمة نجسة» بل مجاهدون أطهار سمع الجميع بصولاتهم في معركة تحرير إدلب». وحذر الشافعي بدوره من «العودة إلى المربع الأول لحرب طويلة» في حال الافساح «للمحرشين مدخلاً للدخول منه».
ولا تزال الأسباب التي دفعت إلى اندلاع الاقتتال بين «أحرار الشام» و «جند الأقصى» غير واضحة، في ظل عدم قناعة العديد من المراقبين بأن يكون السبب هو عمليات الخطف المتبادل. وكان من اللافت أن التصعيد ضد «الجند» والمطالبة بالعودة إلى خيار الاستئصال، جاء من قبل قادة عسكريين في «أحرار الشام» محسوبين على الجناح السياسي الأكثر قرباً من تركيا، وهو ما أثار تساؤلات عما إذا كان للأخيرة دور في اندلاع الفتنة، وما هي مصلحتها.
وقد تكون بعض الإجابات كامنة في ما تمّ تسريبه من قبل بعض النشطاء ووسائل الإعلام المعارضة بخصوص مفاوضات بين ثلاثة فصائل كبرى بهدف الاندماج في ما بينها. ويأتي هذا التسريب بعد فشل مساعي الاندماج العام الذي راهنت عليه «جبهة النصرة» بعد فكّ ارتباطها مع «القاعدة»، كما يأتي في ظل التوتر الحاصل بينها وبين «أحرار الشام» على خلفية الموقف من «جند الأقصى»، ولكن الأهم أنه يأتي من حيث التوقيت في ظرفٍ دولي شديد التعقيد قد يتطلب الخروج منه، تقديمَ كبشِ فداء.
والفصائل الثلاثة التي يجري الحديث حول قرب اندماجها هي «أحرار الشام» و «نورالدين الزنكي» و «فيلق الشام». ورغم أن التسريبات تشير إلى إمكان انضمام فصائل أخرى إلى هذا الاندماج لاحقاً، إلا أنه من الواضح أن «جبهة النصرة» لن تكون إحداها. ويعود ذلك لسبب بسيط هو أن الأخيرة حرّمت القتال تحت الراية التركية في إطار عملية «درع الفرات»، فيما الفصائل الثلاثة التي من المتوقع أن تندمج تشارك عملياً في هذه العملية.
ويعني ذلك كله شيئاً واحداً، وهو أن الاندماج الجديد في حال نجاحه سيكون بديلاً عن «جيش الفتح» الذي تشكل «جبهة النصرة» عموده الفقري. بمعنى آخر، سيؤدي الاندماج إلى تقسيم الفصائل وفق موقفها من التدخل التركي والأميركي. فالفصائل الرافضة له مثل «جند الأقصى» و «التركستان» و «القوقاز» و «جنود الشام» و «إمارة القوقاز» و «الأوزبك» تنضم إلى «جبهة النصرة»، فيما تنضم الفصائل الأخرى إلى الاندماج المزمع تشكيله بحسب التسريبات. وهو ما يترك الباب مشرعاً أمام تداعيات هذا الفرز وانعكاسه على «جبهة النصرة» التي ستصبح مكشوفة أمام الاستهدافات الدولية.
وهنا يبرز تساؤل مهم حول موقف «أحرار الشام» من التدخل الأميركي في الشمال السوري، فهي، وإن أصدرت فتوى واضحة بجواز الاستعانة بالجيش التركي، إلا أنها اعتبرت مسألة التدخل الأميركي «غامضة» وبحاجة لمزيد من البحث، فهل يعني قبولها الانخراط في الاندماج مع فصيلين يؤيدان هذا التدخل أنها حسمت موقفها من التدخل الأميركي واصبحت تجيز أيضاً القتال تحت رايته؟
وأكد أسامة أبو زيد، المستشار القانوني لـ «الجيش الحر»، موضوع الاندماج من دون أن يذكر اسماء الفصائل المشاركة فيه، فقال إن «قوى ثورية وازنة ستعلن توحيد جهودها العسكرية والأمنية»، مشدداً على أن التوحد سيأتي «قبيل انطلاق واحدة من أكثر المعارك مفصلية في مواجهة الاسد والاحتلال الإيراني ـ الروسي». وكانت مصادر عدة تحدثت خلال الأيام الماضية عن تحضير الفصائل لهجوم معاكس في حلب الشرقية.

 14-10-2016

الرايات السود فوق واحة الحضارة

إرسال إلى صديق طباعة

خليل صويلح

دمشق | في امتحان مادة التاريخ، كتبت تلميذة اسم كليوباترا بدلاً من اسم زنوبيا، في إجابتها عن سؤال: من هي ملكة تدمر؟ لم تتردّد طويلاً في
 الإجابة، ذلك أنّ مسلسلاً كان يُعرض على الشاشة عن حياة الأولى في الفترة نفسها، فعلق الاسم في ذهنها، وكان أن حصلت على علامة الصفر. في المقابل، بإمكاننا أن نكتب موضوع إنشاء باهراً، نفتتحه بعبارة منسوبة إلى زنوبيا «بئس تاج على رأس خانع ذليل، ونعمَ قيد في ساعدٍ حرٍّ أبيّ». وفي حالة ثالثة، ربما سيظن أحدهم أن سميرة توفيق هي الملكة زنوبيا بعد مشاهدة فيلمها «فاتنة الصحراء».
هكذا راكمنا تصورات فولكلورية وسياحية عن هذه المدينة الأثرية، بوصفها استراحة عابرة في الطريق الصحراوي، وأوكلنا أمرها إلى أدلّاء سياحيين يحفظون عن غيب معلومات تاريخية جاهزة، يرددونها بببغائية أمام الزوار. وبدلاً من استثمار سحر التاريخ في هذه المدينة الأثرية العريقة، عملنا على تأكيد بداوتها بترسيخ صورة مضادة وتصديرها بصرياً إلى العالم، فيما اكتفينا محليّاً بالتقاط صور تذكارية خاطفة خلال عبورنا الطريق الصحراوي إلى الفرات. وربما سنعرّج على «فندق زنوبيا» إلى يسار الطريق، في استراحة قصيرة، نتناول خلالها الشاي الأسود، ونتأمل بقايا أعمدة المدينة القديمة، وغابات النخيل. هناك «رالي السيارات» أيضاً، في ثنائية السرعة والبطء، إذ لن يغيب «الجمل» عن الصورة التذكارية السالفة لاكتمال المشهد الفولكلوري. لم نتمكّن ثقافياً إذاً من وضع تدمر في نسيج التراكم الحضري السوري، كما ينبغي. وحين تحضر في المشهد، سوف نستعيد ذاكرة مهتزّة عن مافيات تهريب الآثار، وإهمال المدينة، وسيهمس بعضهم بوقائع من «السجن الرهيب» الذي يقع في مكانٍ ما من المدينة، أو بالمكان السرّي لدفن النفايات السامة، وسط صحراء تدمر في مقاولة مشهورة، كانت سبباً لارتفاع عدد مرضى السرطان في المنطقة الشرقية للبلاد.
لا أحد يتذكّر اليوم أحمد مادون، التشكيلي الذي استلهم أعماله من مناخات هذه المدينة، منبّهاً إلى فرادة الفنون النحتية لأسلافه، فيما كان فاتح المدرّس يؤكد أهمية الفن التدمري في تأصيل هوية تشكيلية محليّة، وسوف يستدعي نزار صابور «أيقونات تدمر» في معرضٍ لافت، مُذكّراً بعراقة المدن الشرقية وأزمنتها الغابرة، واستثمار النقوش والكتابات على الجدران في بناء أعماله التشكيلية المشغولة بالرمل والرماد. كما سيقترح سمير ذكرى في شريطه الروائي «وقائع العام المقبل» مشهداً لأوركسترا تعزف في المدرّج الأثري للمدينة، ناسفاً بداوتها المعلنة التي راكمها «مهرجان البادية» لاحقاً، بوصفها مكاناً طارئاً لبيوت الشَعر والقهوة المرّة وفرق الدبكة السياحية، والشعر النبطي، وعازفي الربابة الجوّالين، وحفلات الشواء.
الآن، لحظة اقتحام البرابرة الجدّد لأوابد المدينة، و»طريق الحرير»، وممرّ القوافل، وموت الغزاة، ستحضر صورة الإمبراطور الروماني أوريليوس لحظة أسر الملكة زنوبيا، بعدما استولى على المدينة سنة 282 م، واقتاد الملكة المتمرّدة مقيّدة بسلاسل الذهب إلى روما، لتموت هناك بعد فترة قصيرة كمداً، فيما سيعبر المدينة خالد بن الوليد بجيشه آتياً من العراق إلى اليرموك. لن يحطّم التماثيل، أو يستبيح المدينة. توجّه إلى معبد «بل» وبنى محراباً صغيراً جهة القِبلَة، وصلّى هناك ثم أكمل طريقه جنوباً. بالطبع، لن يستعيد الغزاة الجدد مثل هذه الأمثولة، إنما سينجزون نسخةً أخرى مما فعلوه في مدينة الموصل، وسيحطّمون «الأصنام» ويعلنون إمارتهم بحدّ السيف، ومحو الذاكرة الحضرية لهذه المدينة المعجزة، استكمالاً للتمرينات على ترسيخ ماكيت «مدن الملح» الجديدة، بدلاً من المراكز القديمة من بغداد إلى دمشق وحتى صنعاء. ولن يلتفتوا إلى تحذيرات إيرينا بوكوفا، المديرة العامة للأونيسكو من أنّ تدمير مدينة تدمر الأثرية السورية «جريمة حرب، وخسارة هائلة للبشرية لأهم موقع تراث عالمي فريد في الصحراء»، أو لنداء مأمون عبد الكريم، المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا، من أجل إنقاذ المدينة الأثرية المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي منذ عام 1980. لن يكون السيناريو الجديد لهؤلاء البرابرة مختلفاً عمّا شاهدناه في متحف نينوى، لكن حفلة تحطيم الأصنام ستكون هذه المرّة أكثر تأثيراً، نظراً لأننا إزاء متحف أثري في الهواء الطلق. ولكن كيف واجه المثقفون السوريون هذه المحنة؟ اكتفى معارضو ما وراء البحار باستدعاء ذاكرة «سجن تدمر الرهيب»، وهلّل بعضهم لـ «تحرير تدمر»، واستعاد آخرون نصوصاً لمعتقلين سابقين كتبوها عن تجربتهم الرهيبة في هذا المعتقل الصحراوي، فيما خيّم الأسى على آخرين عبر صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. يقول الشاعر محمد فؤاد: «داعش أنهتْ الثنائية المقيتة التي ضلّلتْ أجيالاً بكاملها: التراث أو المعاصرة، فدمّرتْ التراث، وأعدمتْ المعاصرة»، فيما دعت الإعلامية ديانا جبّور إلى تنكيس الأعلام حداداً، كي لا تضيع لاحقاً، أوغاريت، وكنيسة حنانيا، والجامع الأموي، وبقية الآثار. أما الشاعر صقر عليشي، فاكتفى بالقول: «على أعمدة تدمر يتكسّر ظهر التاريخ»، واقترحت لينا بطل حصان طروادة من نوعٍ جديد «فلنصنع حورية عارية وعملاقة، في داخلها جنود، وندخلها إلى تدمر، فهي الوسيلة الأفضل للقضاء على داعش». هل سنكتفي بالمراثي من المتنبي إلى سليمان العيسى، ونغرق في الرمال، وبقايا طعم التمر وحليب النوق؟ وهل ستنطفئ مدينة الشمس تحت خفق الرايات السود، لمصلحة الخرائط الجديدة لإمارة الصحراء، أم سيستيقظ «زبداي» آخر ليخاطب الملكة «إنّي لأشهّر سيفي حتى في وجه النسيم الذي يعبث بخصلات شعرك يا مولاتي»؟
ادب وفنون
العدد ٢٦٠٣ الاثنين ١ حزيران ٢٠١٥

 

JPAGE_CURRENT_OF_TOTAL