You are here: الصفحة الرئيسة

Harakat Al-Shaab - حركة الشعب -لبنان

عامان على العدوان: فيتنام العرب

إرسال إلى صديق طباعة

«فيتنام العرب»... تطيح بمقامرة الأمراء

إنها السابعة مساءً من الخامس والعشرين من آذار 2015 بتوقيت الولايات المتحدة الأميركية. السفير السعودي (آنذاك) لدى واشنطن، عادل الجبير، يعلن للعالم حرب بلاده على اليمن، موقظاً سكان الجار الفقير، حيث كانت الساعة تشير إلى الثانية فجراً (يوم 26 آذار)، على دويّ الغارات الأولى التي استهدفت إحدى أقدم المدن المأهولة باستمرار عبر التاريخ: صنعاء. حُكي الكثير عن أسباب الحرب التي تدخل عامها الثالث. أسبابٌ تراوحت ما بين العوامل الخارجية التي تتصل بالإرادة الأميركية وبمقتضيات التنافس مع الخصم الإقليمي: إيران، والظروف الموضوعية التي استجدت في بلد ألِفته السعودية خاضعاً لوصايتها على امتداد عقود، فضلاً عن الدوافع المتصلة بتركيبة الحكم السعودي ما بعد الملك عبدالله. على هامش ما تقدم، ثمة سردية لم تستوفِ حقها من النقاش السياسي والاعلامي، ألا وهي محاولة الحكام الجدد خَلق روح وطنية جامعة في بلد تطغى عليه الهوياتية القبلية والمناطقية (نجديون، حجازيون، بحرينيون، يمنيون)، وذلك بالاستثمار في المعركة الخارجية الأكبر للدولة السعودية الحديثة

دعاء سويدان, خليل كوثراني

الأمر أشبه ما يكون بعملية قيصرية لاستيلاد «بعث سعودي» أو «قومية سعودية»، بالاستناد إلى «أمجاد حقيقية» هذه المرة، تراءت لورثة ابن سعود، الطامعين في دولة عظمى في إقليم يُعاد تشكيله من جديد.

تجلت تلك المطامح بوضوح في الإعلام السعودي خلال السنة الأولى من الحرب على اليمن، حينما دأبت الأقلام المقرّبة من البلاط على الترويج لما سمّته «روحاً وطنية» تجمع السعوديين كافة، وتحشدهم خلف باني «الدولة السعودية الرابعة»، محمد بن سلمان. مع مرور الوقت، وتتالي الخيبات العسكرية والسياسية والاقتصادية التي مُنيت بها الرياض في مواجهة اليمنيين، بدأ «الوهم» بالاضمحلال شيئاً فشيئاً، واتضح لشعب المملكة أن أمراء النظام يسرّعون، عبر الحرب التي تدخل عامها الثالث (إضافة إلى المغامرات النفطية)، في مغادرة نمط حياة اعتادوه لعشرات العقود، وكان قائماً على الرفاهية.
في المقابل، كان اليمنيون، على ضآلة عناصر قوتهم المادية، يعيدون استكشاف هويتهم الوطنية الضاربة جذورها في تاريخ الحضارات. لم تكن الحرب غير محرّض لشعارات ساكنة في وعيهم وذاكرتهم الجمعيَّيْن، فحواها رفض الوصاية والإصرار على نيل استقلال ناجز. هكذا رجَع اليمن إلى صدارة الاهتمام الإقليمي والدولي، وبدا العالم كأنه يكتشف هذا البلد للمرة الأولى.
ما بين الحسابين المتقدمَين، السعودي واليمني، أسهمت الإنجازات التراكمية للقوى العسكرية اليمنية، التي دفعت بعضهم إلى تشبيه اليمن بـ«فيتنام عربية»، في ترسيخ صورة السعودية كدولة عاجزة عن اجتراح انتصارات، بل ساعية إلى استئجار بيادق تقاتل عنها بالوكالة، فيما ظهر اليمن في صورة «المقاتل الأسطوري» الذي يفضّّل الموت بغارات الطائرات على الانسحاب من الجبال التي يرابط فيها، كما في نهم، شرق صنعاء.
أما النجاح الوحيد الذي يُحسب للسعودية، حتى الآن، فهو تسجيل رقم قياسي في الغارات واستهداف الأماكن المدنية، ما طبعها بطابع صاحب القوة التدميرية، والمقتدر على البطش، الذي بات يخشاه حتى أصدقاؤه و«أشقاؤه» وحلفاؤه، وفق تقديرات الصحافة الغربية وبعض المراقبين (توقعت مجلة «نيوزويك» أن تعتدي السعودية مستقبلاً على كل من قطر والعراق).

معركة ساحل تهامة

بعدما يئست السعودية من تحقيق اختراقات نوعية في جبهات تعز ومأرب وحجة وصنعاء، اتجهت وحلفاءها غرباً، في محاكاة لخطة العثمانيين التاريخية في اليمن، القائمة على احتلال ساحل تهامة الغربي كمقدمة للسيطرة على صنعاء والوسط والشمال. توهم السعوديون، كما العثمانيون، أن «اليمن بلد بلا حاكم، مقاطعة خالية. لن يكون احتلالها ممكناً فحسب، بل سهلاً، وعندما نسيطر عليها ستصير سيدة أراضي الهند ترسل كميات كبيرة من الذهب والمجوهرات لإسطنبول»، وفق ما ادّعى ذات يوم خادم سليمان باشا العثماني.
لكن الوقائع لم تطابق التوقعات. ثلاثة أشهر مرت على إطلاق السعودية وحلفائها عملية «الرمح الذهبي» لـ«تحرير الساحل الغربي» الممتد على مئات الكيلومترات، لم يتحقق خلالها للتحالف ما تمناه من سيطرة. من الصحيح أن القوات الإماراتية والجماعات الموالية لها تمكنت من التقدم لمسافة تقل عن 70 كيلومتراً (خط ذوباب ــ المخا)، لكنها سرعان ما توقفت بفعل الخلافات بين «الشقيقتين» (السعودية والإمارات) من جهة، والضغط الميداني من جهة أخرى، الأمر الذي اضطرها إلى الخروج من مدينة المخا، حيث تعرضت لاستنزاف كبير، بلغ ذروته بمقتل نائب رئيس هيئة الأركان (المعيّن من الرئيس المستقيل عبد ربه هادي)، أحمد سيف اليافعي، أواخر شباط الماضي. استنزافٌ لا يزال متواصلاً، ومن المتوقع تصاعده، في ظل سيطرة «أنصار الله»، أخيراً، على سلسلة جبال استراتيجية في تعز، تجعل من أي سيطرة على الشريط الساحلي الضيق في الجنوب الغربي للبلاد غير ذات جدوى.
سلاح التدويل:

باب المندب في خطر

هذا العجز العسكري البيّن عن مواصلة «الزحف» من المخا إلى الحديدة، ألجأ الرياض إلى استعجال خطتها التي كشفت عنها مبكراً مبادرة وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، وخطة المبعوث الأممي إلى اليمن، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، اللتين طالبتا بانسحاب «أنصار الله» من الحديدة وتعز كشرط لأي حل سياسي. من هنا، بدأ العزف على نغم «التهديد الحوثي للملاحة البحرية في باب المندب»، المضيق ذي الأهمية الاستراتيجية على مستوى العالم، في محاولة لتأليب المجتمع الدولي على صنعاء. محاولةٌ ترافقت مع ضخ سياسي وإعلامي مكثف، بشأن ما تدّعي السعودية أنه «تهريب أسلحة إيرانية» عبر ميناء الحديدة.
بلغ الأمر بالرياض، في الأيام القليلة الماضية، حدّ استغلال جريمة مأسوية أودت بحياة ما لا يقل عن 42 لاجئاً صومالياً (اتهمت «منظمة الهجرة الدولية» بوارج التحالف السعودي نفسه بارتكابها)، للمطالبة بتدويل إدارة الميناء، علماً بأن «أنصار الله» لم ترفض استضافة فريق التفتيش التابع للأمم المتحدة، من أجل تفتيش السفن داخل الحديدة عوضاً عن فعل ذلك في ميناء جيبوتي. وفي ظل تلك المعطيات، لا يُستبعد أن تصعّد السعودية استهدافها لميناء الحديدة، عبر الغارات الجوية التي تزايدت في الآونة الأخيرة، أو عبر التضييق على البواخر وإجبارها على تغيير مسارها من الحديدة إلى عدن أو جدة، خاصة في ظل حديث في الصحف الأميركية عن اقتناع إدارة دونالد ترامب بتغطية أي قرارات متهورة من هذا النوع. قراراتٌ من شأنها، إذا ما تتابع تنفيذها، خنق الرئة الثانية التي لا يزال المدنيون يتنفسون من خلالها، بعدما خُنقت رئتهم الأولى المتمثلة في مطار صنعاء الدولي (يمكن القول إن هذه التداعيات الخطيرة بدأت فعلاً في ظل تراجع الملاحة البحرية في ميناء الحديدة بنسبة 60%).

«خذوا سوريا واتركوا لنا اليمن!»

ما يجدر التنبيه إليه، في هذا السياق، هو أنه ليس ثمة انقسام دولي فعلي حيال الأزمة اليمنية، كما الحال في سوريا. لذا، فإن الموقف الروسي من النيات السعودية، بخصوص ميناء الحديدة، هو ما يثير مخاوف يمنية اليوم. مخاوفُ تستند إلى الموقع شبه الحيادي الذي اتخذته موسكو لنفسها إزاء الحرب في اليمن منذ اندلاعها، الذي تمظهر غير مرة في جلسات مجلس الأمن الدولي. يعزز الاستنتاج المتقدم الموقف غير المسبوق الذي أطلقه زعيم «أنصار الله»، عبد الملك الحوثي، الأحد الفائت، عندما هاجم روسيا مباشرة للمرة الأولى، متّهماً إياها بتقديم «المليارات من الفلوس التي طبعتها، وهي استحقاق للشعب اليمني... إلى المرتزقة لتعينهم في الحرب».

 


في المقابل، تراهن السعودية، على ما يبدو، على الفتور الروسي إزاء الحرب على اليمن، في محاولتها المقايضة ما بين الملفين السوري واليمني، بعدما يئست من الحصول على حصة من «الكعكة السورية». هذا ما يؤكده تصريح لعضو في الوفد السعودي الأخير إلى واشنطن، قبل أيام، أكد فيه أن المملكة تنظر إلى سوريا كـ«قضية خاسرة». تصريحٌ عززه حديث أقلام سعودية، مقرّبة من العرش، عن مقايضة من النوع المذكور، عبر قول أحدهم تعليقاً على زيارة محمد بن سلمان إلى واشنطن، إن «اليمن، بخلاف سوريا، محل اتفاق دولي على القضاء على الانقلابيين، وعزل حليفهم الإيراني».
أما في الجانب العسكري، فمع يأس السعودية من كسر المقاتل اليمني، في الجبهات الداخلية أو الحدود، بات اللجوء إلى التنظيمات العقائدية، كـ«الإصلاحيين» (إخوان مسلمون) والجماعات السلفية والمقاتلين التكفيريين، ديدنها في مختلف الساحات، كما في تعز وصنعاء وصعدة. لكن، حتى هؤلاء، لم يثبتوا جدارة في الميدان، ولم يقدموا إلى المملكة ما يمكنها التباهي به، بل إن أنباء الخسائر التي يتكبدونها، خصوصاً في البقع بصعدة ونهم بصنعاء، باتت شبه يومية.

تعز: «إدلب اليمن»

يُضاف إلى ذلك، أن تلك الجماعات بدأت بالتفريخ، مقيمة شبه إمارات وكانتونات متشددة، تتنازع الولاء والسيطرة والاستحواذ على الموارد العامة، مثلما الحال في محافظة تعز. من «أنصار الشريعة»، إلى «كتائب أبو العباس»، إلى «كتائب حسم»، إلى «جماعة سليم الكامل»، إلى مقاتلي غزوان المخلافي (لا يتجاوز عمره 17 عاماً)... وغيرها، تتعدد الفصائل المتكاثرة في تعز، المتعددة الولاءات ما بين السعودية وقطر والإمارات، المستقل كل منها بسجونه وشبه محاكم عرفية خاصة، والمتقاتلة على كل شيء: بدءاً من الشوارع والأزقة وصولاً إلى المرافق الحكومية والأسواق وخوّاتها. وعلى أن الأخطر في الجماعات المذكورة، يبقى تنظيم «أنصار الشريعة» (القاعدة في اليمن)، الذي لا يتم تسليط الأضواء الإعلامية على نشاطه في تعز، حيث يعمل بصورة مريحة وعلنية وملحوظة بوضوح، ويمارس فعله العسكري إلى جانب الفصائل الأخرى، من دون أيّ رفض يُذكر من جانب المقاتلين الموالين للسعودية.
هذه الصورة القاتمة لما يدور في تعز، إلى جانب نشاط تنظيمي «القاعدة» و«داعش» في محافظات عدة، خصوصاً عدن وأبين والبيضاء، ترشّح اليمن ليكون قبلة جديدة لـ«الجهاديين»، المنهزمين في سوريا والعراق وليبيا، وفق تقديرات الصحافة الغربية، وهو ما يفتح باب الحديث عن تدويل محتمل لأزمة اليمن، خصوصاً أن الأطراف الفعالة في المضمار الدولي لن يكون بإمكانها الاستمرار إلى ما لا نهاية في غضّ الطرف عن ساحة تصارع مصالح، تمتد من شرق اليمن إلى خليج عدن والبحر الأحمر وباب المندب، وصولاً إلى القرن الأفريقي، الذي أضحى ميداناً لتنازع النفوذ والهيمنة.

 


 

معركة اقتصادية وأزمة رواتب مختلقة

يفتح الإصرار السعودي على انتزاع ميناء الحديدة الباب على مخاطر جدية تحدق بالمدنيين، الذين بات 60% منهم مهددون بالانزلاق إلى المجاعة، وفق تقديرات الأمم المتحدة. يستقبل الميناء حوالى 70% من احتياجات البلاد من الغذاء، و80% من احتياجاتها من الوقود، ما يجعل أي إغلاق له أو عرقلة إضافية لعمله بمنزلة إعلان إحدى أكبر حروب التجويع في التاريخ الحديث، على شعب يحتاج 70% من أفراده إلى شكل من أشكال المساعدة.
فضلاً عن ذلك، هناك أزمة الرواتب التي لا تزال مراوغة حكومة عدن المفضوحة حائلاً دون معالجتها. ورغم وعودها المتكررة بصرف الرواتب، وتشكيلها لجاناً متعددة في هذا الشأن، فإن الوعود كانت سرعان ما تتبخر، كاشفة عن ابتزاز تمارسه حكومة الرياض إزاء الموظفين في المحافظات الشمالية. أكثر مما تقدم، حتى الموظفون في المحافظات الجنوبية والشرقية المسمّاة «محررة»، لم يسلموا من المساومة على لقمة العيش، وفق قاعدة «إما أن تقاتلوا معنا وإما لا رواتب». مساومةٌ صاحبتها وعود «كاذبة» بودائع سعودية وخليجية في البنك المركزي في عدن، تبيّن أن أياً منها لم يكن حقيقياً ولا جدياً.

اليمن
العدد ٣١٣٨ الثلاثاء ٢٨ آذار ٢٠١٧

عن جمال عبد الناصر

إرسال إلى صديق طباعة

نجاح واكيم

 «هو الحي في أمة متخمة بالموت والموتى»

لمناسبة الذكرى السادسة والأربعين لرحيله، قد يبدو الحديث عن جمال عبد الناصر تذكاراً للماضي، وتمجيداً لرجل فذ أعطى لأمته وللإنسانية جمعاء الكثير.

أو قد يبدو الحديث عنه اليوم محاولة لإنصاف رجل ظلمه كثيراً أعداؤه، وظلمه أكثر أولئك الذين انتسبوا إليه أو إلى حركة التحرر العربية من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء فهم عبد الناصر والأسس التي قام عليها مشروعه من أجل التحرر الوطني والنهضة القومية. هؤلاء جعلوا منه أسطورة هبطت على الأمة من خارج مدارات تاريخها، كنيزك جاء من المجهول، أضاء سماءنا برهة ثم انطفأ في المجهول. ذلك بسبب عجزهم – أو ربما لتبرير عجزهم – عن حمل القضية التي حملها الرجل بوعي وشجاعة وتفان وإيمان.
حديثي عن جمال عبد الناصر اليوم ليس من قبيل الوفاء للرجل، أو الحنين لحقبة من تاريخ أمتنا كان هو بطلها، وقد عشتها طفلاً وولداً وفتى، يوماً بيوم وساعة بساعة، ولا يزال وجهه بعد ست وأربعين سنة على غيابه، مشرقاً في قلبي ووجداني، وفي أروع سني عمري وأكثرها خصباً وثراء وعزة وأملاً. أنا اليوم لا أتحدث عن ماضٍ انتهى وعن كبير رحل، بل أتحدث لغد أرى فجره يطل من بين كل أكداس العتمة التي تلفنا، ولأمة أؤمن أنها سوف تشق طريقها من جديد نحو الحرية والكرامة والحياة.

■ ■ ■

في الذكرى الخمسين لثورة 23 يوليو استضافت إحدى الفضائيات المصرية الدكتور عزيز صدقي، الرجل الذي كلفه عبد الناصر إنشاء قطاع الصناعة في مصر في السنوات الأولى من عمر الثورة. وبالفعل فقد نفذ الرجل المهمة على نحو ممتاز، وعُدّ بحق أبا الصناعة المصرية. ثم تقلد مواقع رفيعة في الدولة، وصار رئيساً للوزراء مرات عدة.
في تلك المقابلة تحدث الرجل بإسهاب عن تجربته مع عبد الناصر. عن تكليفه تولي وزارة لم تكن قائمة وهي وزارة الصناعة، وعن المصانع الضخمة التي أقيمت في ستينيات القرن الماضي، وعن التحولات الاجتماعية في مصر آنذاك، والتي عُدّت بحق ثورة اجتماعية رائعة... وتحدث أيضاً عن تصفية تلك الانجازات بعد ذلك. عن المصانع التي جرت عمليات مشبوهة وقاسية لبيعها بأبخس الأثمان، والرشى الفادحة التي رافقت عمليات البيع، والرأسمالية الطفيلية التي نشأت وتورمت وطغت، وعن... وعن... ثم سألته السيدة التي أدارت الحوار معه: «وماذا عن الثورة بعد عبد الناصر»؟ ورد الرجل بحسرة وحزم: «انتهت الثورة. بعد عبد الناصر انتهت الثورة».
كنت أتابع ذلك الحوار في نبرات صوت عزيز صدقي وعينيه وحركات يديه. وانتظرت أن تسأله السيدة: «ولكن لماذا لم تبادر القوى صاحبة المصلحة في الثورة إلى الدفاع عن ثورتها وعن مصالحها فيها، وخصوصاً بعدما اتضحت مؤشرات الردة ومعالمها على طريق الانهيار؟»، لكن السيدة لم تسأل، وهو لم يجب. بعد سنوات أتيح لي أن التقيه، وعدت به إلى ذلك الحوار، وإلى السؤال الذي انتظرته في نهاية ذلك الحوار، وسألت... أطرق الرجل برهة، ثم هز رأسه وقال: «ما اعرفش».
في الحقيقة فإن الإجراءات التي نفذها الرئيس أنور السادات على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي لم تكن مجرد اجتهادات خاطئة أو خيارات انتقائية منعزلة عن مسار عام لسياسة القيادة المصرية الجديدة، مثّلت ارتداداً كاملاً عن أسس ثورة يوليو والخيارات الاستراتيجية التي قام عليها مشروع عبد الناصر. ففي موازاة الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية تلك، ظهرت مؤشرات متلاحقة للانقلاب الشامل على أسس الثورة وخياراتها الاستراتيجية، لم يجرِ التوقف عندها بعمق ودراسة حقيقتها ومسارها واستقراء نتائجها، فاقتصرت المواقف منها – في أحسن الأحوال – على الاستنكار، وأحياناً الصراخ.
أول تلك المؤشرات كان طرد الخبراء العسكريين السوفيات من مصر، مع تعمد أن يتخذ الطرد معنى الإهانة والاستعداء. تلاه بعد ذلك، وبالتحديد بعد حرب تشرين/ اكتوبر 1973، إعلان الرئيس السادات أن «99% من أوراق الحل في الشرق الأوسط بيد الولايات المتحدة الأميركية».
في الفترة نفسها بدأت تظهر علامات التحالف بين القيادة المصرية والنظم العربية والإقليمية المحافظة والمتحالفة مع الولايات المتحدة، وكان أبرزها اثنان: نظام الشاه في إيران والمملكة العربية السعودية. وبعد حرب تشرين/ اكتوبر1973 مباشرة، لم يكن مجرد زلة لسان إعلان الرئيس السادات أن تلك الحرب هي آخر الحروب بين مصر وإسرائيل. وكذلك لم يكن مجرد زلة لسان إعلانه بعد ذلك، وفي خطاب له في مجلس الأمة، نيته الذهاب «إلى آخر الدنيا، وحتى إلى القدس، من أجل السلام».
وبالتزامن مع إعلان تحالفاته الجديدة مع القوى المحافظة والمتحالفة مع أميركا، كانت السلطة المصرية الجديدة تقطع علاقاتها مع القوى التقدمية العربية والعالمية، المناهضة للاستعمار الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. وقد كانت ثورة يوليو، تحت قيادة جمال عبد الناصر، قد بذلت جهوداً مضنية ومثمرة لإقامة وتوطيد العلاقات مع هذه القوى كجزء من سياسة المواجهة مع الغرب.
لا بل ربما كان من أولى المؤشرات على تلك التحولات مبادرة السادات بعد توليه منصب الرئاسة إلى اتخاذ لقب «الرئيس المؤمن». هل كان ذلك تمييزاً لنفسه عن سلفه «غير المؤمن» العروبي الاشتراكي؟ أم كان ذلك مؤشراً على الاستعانة بالقوى «المؤمنة» التي ناصبت الثورة العداء من اليوم الأول من أجل تصفية الثورة ومواجهة أولئك الذين «يلبسون قميص عبد الناصر»؟
في هذا السياق جاءت سياسة «الانفتاح»، والانقلاب على «اشتراكية الفقر»، وتدمير القطاع العام وبيع مصانعه بسعر «الخردة»، والتأسيس للتشوهات الاجتماعية الخطيرة ولسيطرة رأس المال على الحكم.
قلت كانت الإجراءات المتسارعة التي اتخذها الرئيس السادات، تبدو للكثيرين مجرد اجتهادات خاطئة، أو انفعالات وردات فعل متهورة لرجل وصل إلى قمة السلطة في مصر وسط ملابسات لا تزال تثير الكثير من الأسئلة والتساؤلات حولها كما وحول ظروف وفاة عبد الناصر، غير أن الإجراءات تلك كانت في الحقيقة تمثّل خطوات مدروسة وحلقات مترابطة في سياسة شاملة ومتكاملة، رسمتها وأدارتها الولايات المتحدة الأميركية. وكان الرئيس السادات يدركها جيداً، ويدرك خطورتها كما وخطرها عليه شخصياً ما جعله يوكل أمنه الشخصي لفريق تابع للاستخبارات المركزية الأميركية.
في 23 تموز/ يوليو 2002، كنت في مصر، بدعوة من الإخوة في «حزب الكرامة»، أشارك في احتفالاتهم بالذكرى الخمسين للثورة. وكنت قبل ذلك بفترة وجيزة قد تابعت حلقات مشوّقة من برنامج «شاهد على العصر» للإعلامي المعروف أحمد منصور، الذي استضاف في تلك الحلقات السيد حسين الشافعي. أعجبت جداً بالرجل، بجرأته، وأمانته، ووضوحه، وانتمائه الصادق للثورة التي شارك فيها ضابطاً ورجل دولة. اغتنمت فرصة وجودي في مصر واتصلت به، فردت السيدة زوجته وقالت إنه غير موجود في المنزل لأنه كان يشارك في احتفال شعبي في أحد أحياء الاسكندرية. كان السيد حسين الشافعي قد رفض المشاركة في احتفال رسمي نظمته الدولة وحضره الرئيس حسني مبارك والعقيد معمر القذافي، ورفض قبول وسام تكريم بالمناسبة. عندما عاد إلى المنزل وأخبرته السيدة زوجته اتصل بي وحدد لي موعداً في اليوم التالي في الاسكندرية. ذهبت إليه برفقة ثلاثة أصدقاء كان من بينهم الرفيق أبو أحمد فؤاد، الذي يشغل اليوم منصب نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

"إجراءات السادات كانت تمثّل خطوات مدروسة ضمن سياسة رسمتها وأدارتها واشنطن"

استقبلنا الرجل في استراحته المتواضعة، المتواضعة جداً، بقامته الشامخة، وملامحه القوية، وصوته الأجش، وتواضعه الرائع الكبرياء. سألناه كثيراً وأجاب واستفاض... كيف فاتحه عبد الناصر بأمر الانقلاب على الملك فاروق، دوره في الانقلاب كضابط في سلاح المدرعات، صفقة الأسلحة التشيكية، العدوان الثلاثي، السد العالي، الوحدة والانفصال، الإصلاح الزراعي والتصنيع الخ... الخ. وعندما كان يفرغ من الحديث عن كل إنجاز من تلك الإنجازات الرائعة كان أحدنا يسأل: ومن فعل هذا؟ جمال. وحده جمال كان يقول. سألناه عن النكسة. تحدث كثيراً واستفاض... وانتهى إلى القول «كانت حرب 1967 مؤامرة عالمية ضد جمال». تحدث عن دور شمس بدران وانتحار المشير عبد الحكيم عامر. وعن استقالة «الريس» وعودته عن الاستقالة. وتحدث أيضاً عن الجهود المضنية التي «تفوق طاقة البشر» كما قال، والتي بذلها جمال من أجل إعادة بناء القوات المسلحة والاستعداد للحرب. وسأله أبو أحمد فؤاد: «ولكن كيف عيّن عبد الناصر أنور السادات نائباً لرئيس الجمهورية وكيف ارتكب هذه الغلطة»؟ وروى السيد حسين الشافعي حكاية السادات من ليلة الثورة عام 1952، وقصة ذهابه إلى السينما وافتعال شجار هناك، إلى استبعاد السادات عن المجلس الرئاسي الذي ألّفه عبد الناصر بعد الانفصال، الذي ضم كل أعضاء مجلس قيادة الثورة ما عدا أنور السادات، إلى دوره في اليمن وعلاقته بكمال أدهم، إلى زيارته الولايات المتحدة الأميركية عام 1965 إلى يوم تعيين أنور السادات نائباً لرئيس الجمهورية عام 1969.
«هل كان الأميركان هم الذين ضغطوا على عبد الناصر لتعيين أنور السادات نائباً لرئيس الجمهورية»؟ سأل أبو أحمد فؤاد.
أبداً. قال حسين الشافعي. «لا أحد كان يقدر أن يضغط على عبد الناصر. أعتقد أنهم كانوا الروس، هم الذين تمنوا عليه نتيجة مؤامرة غبية رتّبها علي صبري وجماعته من أجل إبعادي أنا، وظناً منهم أنّ السادات ضعيف يمكنهم إزاحته متى يشاؤون». ثم انتهى إلى القول «كيف اكتشف في أواخر عام 1973، أن السادات كان عميلاً للاستخبارات الأميركية، وأن عمالته بدأت عبر كمال أدهم رئيس الاستخبارات السعودية في الستينيات، عندما كان مسؤولاً في اليمن. ثم جرى تثبيت علاقته بالاستخبارات المركزية الأميركية عندما زار الولايات المتحدة الأميركية عام 1965».
لقد عاد السيد حسين الشافعي وأكد هذه التهمة علناً غير مرة. ما دفع السيدة جيهان السادات إلى التهديد بإقامة دعوى قضائية ضده، ولا أحد يعرف اليوم ماذا حل بالدعوى تلك.
بصرف النظر عن صحة هذه التهمة، وهي برأيي صحيحة، فإن ما جرى تنفيذه في عهد الرئيس السادات، في شتى المجالات، كان تنفيذاً لسياسة أميركية شاملة هدفها القضاء على ثورة يوليو ومشروعها للتحرر الوطني والنهضة العربية. أما عن نتائج تلك السياسات، فإن واقع مصر اليوم، وواقع الأمة العربية اليوم، يجيبان على نحو صارخ ومؤلم عن هذا السؤال.
لكن، وبالرغم من مرارة واقعنا اليوم، نستطيع أن نقرأ بدقة من خلاله وبعمق مشروع ثورة 23 يوليو، أو بالأحرى مشروع حركة التحرر العربية في الماضي، وأيضاً في المستقبل.

■ ■ ■

خلال القرنين الماضيين شهدت المنطقة تجارب ثلاث لإقامة «الدولة العربية».
كانت الأولى في بدايات القرن التاسع عشر، بعد الحرب الأوروبية الكبرى، مع محمد علي الذي حاول عن طريق محاكاة الغرب والمضاربة على تناقضات القوى العظمى في عصره.
وكانت الثانية بعد الحرب العالمية الأولى مع الشريف حسين، الذي حاول، ولكن تحت مظلة الغرب، وبوهم إمكانية المواءمة بين مشروع الدولة العربية ومصالح الغرب في هذه المنطقة.
وكانت الثالثة مع جمال عبد الناصر بعد الحرب العالمية الثانية، الذي حاول، ولكن في مواجهة الغرب، في مناخات الانقسام العالمي بين القوى الكبرى، الذي اتخذ في جانب منه طابع الصراع الأيديولوجي. وفي مناخات التحرر الوطني التي هبت رياحها على عالم المستعمرات القديمة.
بماذا تميز جمال عبد الناصر وثورته عمن عداه وعداها من الزعامات والحركات القومية والتقدمية في أمتنا التي سبقته أو عاصرته أو جاءت بعده؟
بأنه كان صاحب مشروع لا مجرد صاحب دعوة.
خلافاً لجميع القوى الوطنية والقومية والتقدمية العربية التي كانت قائمة آنذاك، قرأ عبد الناصر عصره، عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية كما هو، تناقضات القوى الكبرى وصراعاتها، الحركات التحررية الناشئة وموجة الاستقلال التي بدأت تجتاح عالم المستعمرات القديمة، تناقضات القوى الاستعمارية الغربية وتقدم الولايات المتحدة الأميركية لتزعم جبهة الاستعمار ووراثة إمبراطوريات الاستعمار القديم. إسرائيل حقيقتها ودورها وموقعها في المشروع الغربي للسيطرة على الأمة العربية. قرأ كل ذلك وغيره بعقل علمي وواقعي مجرد، لا برؤية سلفية ولا بتخيلات لا تمتّ إلى حقائق العصر بصلة. قرأه بعمق ومسؤولية لا بارتجال خطابي. في ضوء هذه القراءة العلمية حدد خياراته الاستراتيجية في شتى المجالات وعلى جميع الصعد. وبالاستناد إلى هذه الخيارات وضع مشروعه من أجل التحرر والتقدم.
ولقد حدد خياراته الاستراتيجية على النحو الآتي:
1ــ على الصعيد الدولي:
أــ إخراج مصر من حالة التبعية للغرب، والانفتاح على المعسكر الاشتراكي من خلال تمسكه بثنائية عدم الانحياز والحياد الإيجابي.
ب ــ إقامة أوثق العلاقات مع البلدان الحديثة الاستقلال وحركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وكان من نتائج هذه السياسة جعل مصر عضواً أصيلاً ومتقدماً في المجموعة الأفروآسيوية (باندونغ) سنة 1955 ثم مجموعة عدم الانحياز (بلغراد) سنة 1961. وصارت مصر مركزاً لتلاقي حركات التحرر الوطني في العالم، حيث قدّم جمال عبد الناصر كل أشكال الدعم لهذه الحركات في نضالها ضد الاستعمار.
كانت حركة عبد الناصر في هذا المجال جزءاً من استراتيجية المواجهة مع الغرب الاستعماري. كان يسعى لأن يمثّل هذا التكتل جبهة عالمية في مواجهة الاستعمار، وأن يحيط مصر بكتلة من الحلفاء تؤازرها في هذه المواجهة. وكان يعمل لأن تكون حركات التحرر الوطني في المستعمرات وفي البلدان التابعة للاستعمار ثورة شاملة ومتواصلة ترهق الاستعمار وتستنزفه وتجبره على التقهقر.
إذاً كان خياره الاستراتيجي الأول في عالم ما بعد الحرب التحالف مع المعسكر الاشتراكي، وإنشاء كتلة عالمية ثالثة، قال عنها نهرو إنها «ضمير هذا العالم». وبذلك حدد عبد الناصر موقع مصر ودورها في الصراع العالمي آنذاك.
2ــ على الصعيد الإقليمي:
كان التحدي الأول الذي واجهه عبد الناصر هو مشروعات الأحلاف الغربية في المنطقة. كانت الولايات المتحدة الأميركية تسعى إلى تطويق المعسكر الاشتراكي بسلسلة من الأحلاف: «الناتو» في الغرب، و«السياتو» في الشرق، و«السانتو» في الوسط، أي في هذه المنطقة «الشرق الأوسط». وقصته مع جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي في عهد آيزنهاور عندما جاء إلى مصر في آذار 1953 معروفة.
إذاً كانت استراتيجية الغرب في المنطقة إقامة نظام إقليمي تابع للغرب، يمثّل واحدة من حلقات الحصار ضد المعسكر الاشتراكي. وكان الخيار الاستراتيجي الذي اختاره عبد الناصر هو مقاومة هذه الأحلاف ومقاومة النظام الإقليمي للشرق الأوسط التابع للغرب الاستعماري، وإقامة نظام إقليمي عربي من أجل ضمان الأمن القومي العربي وتحقيق التكامل الاقتصادي في إطار الجامعة العربية. ولهذا دفع إلى وضع ميثاق الدفاع العربي المشترك واتفاقات التعاون الاقتصادي. وكانت عينه دائماً على إسرائيل، ووظيفتها في خدمة الاستعمار الغربي الذي أنشأها، ودورها في المنطقة لجهة تهديد الأمن القومي المصري والعربي، وتفتيت الأمة العربية ومنع تحررها ووحدتها وتقدمها.
بالنسبة لموضوع إسرائيل والقضية الفلسطينية فقد كان الانقسام العربي بشأنها واضحاً منذ قيام ثورة يوليو، وبالتحديد منذ أن سيطر عبد الناصر بالكامل على الحكم بعد أزمة مارس/ آذار 1954 الشهيرة.
كانت هناك وجهتا نظر في هذه المسألة. وكان أبرز المعبرين عن وجهتي النظر آنذاك نوري السعيد من جهة، وجمال عبد الناصر في الجهة المقابلة.

"كان التحدي الأول الذي واجهه هو مشروعات الأحلاف الغربية في المنطقة"

من دون الغرق في النعوت: الوطنية والخيانة والتقدمية والرجعية والخ... فقد كانت وجهة نظر نوري السعيد وسائر الحكومات العربية المحافظة تتلخص بالآتي: «صحيح أن إسرائيل تمثّل خطراً على الأمة العربية وتهديداً دائماً لها. غير أن التصدي لهذا الخطر يكون عن طريق الانضواء تحت مظلة الأمن الغربية التي توفرها مشروعات الأحلاف التي كانت مطروحة». وكانت وجهة نظر عبد الناصر «أن مواجهة هذا الخطر تفترض بناء القوة العربية، والتحالف مع القوى العالمية التي تواجه الغرب الاستعماري، وفرض الحصار على إسرائيل لتعطيل دورها ما يؤسس لتحرير فلسطين وإزالة هذا الكيان». كان هذا من بين أبرز الخيارات الاسترتيجية لجمال عبد الناصر الذي بنى عليه سياسات كسر احتكار السلاح ومطاردة النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا، ومقاطعة إسرائيل ومنعها من التغلغل في البلاد العربية اقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
لقد كانت الصراعات التي فرضت عليه أو بادر هو إلى فرضها مع القوى العربية «المحافظة» حول مسائل النظام الإقليمي والأحلاف وإسرائيل والقضية الفلسطينية هي التي طورت رؤيته إلى موضوع الوحدة العربية، وإلى ضرورة جمع القوى الوطنية والتقدمية في الوطن العربي في جبهة توحد جهودها ضد الاستعمار، وفي مواجهة القوى «المحافظة» التي كانت رؤيتها إلى مسألة «الأمن القومي» مناقضة بالكامل لخياره الاستراتيجي هذا.
3ــ التنمية المستقلة وإعادة بناء المجتمع
الحديث في هذا الجانب شائك ومعقد، وهو حديث يطول، ولا يمكن الغوص فيه الآن، لذلك أكتفي بالآتي:
كان عبد الناصر يدرك أن الصراع من أجل التحرر الوطني يفرض بالضرورة إعادة بناء المجتمع بما يجعله قادراً على خوض هذا الصراع وتحمل أعبائه وتكاليفه. كذلك كان يدرك ضرورة محاصرة وإضعاف الطبقات المرتبطة مصالحها بالاستعمار وتجريدها من أدوات سيطرتها على الحكم. أما على الصعيد الاقتصادي، فإن تحرير الاقتصاد الوطني من التبعية للرأسمالية العالمية، وتحقيق التنمية المستقلة، من أهم شروط التحرر الوطني الشامل.
في ضوء هذا الهدف، «التحرر الوطني»، لا في ضوء نظريات، بل مقولات وشعارات جامدة، كان الدافع إلى إطلاقها التعصب والتلهي بالمناكفات العقيمة بين فلاسفة «الاشتراكية العلمية» وفلاسفة «الاشتراكية العربية»... في ضوء هذا الهدف يمكن فهم الإجراءات الاقتصادية – الاجتماعية لثورة 23 يوليو/ تموز. من الإصلاح الزراعي وقوانينه المتتابعة، إلى تمصير المصالح الأجنبية، إلى التأميم، إلى التصنيع والتعليم، إلى...

■ ■ ■

في عام 1981 – لا أذكر بالضبط التاريخ – التقيت في باريس لأول مرة الرئيس أحمد بن بلة. كان قد خرج من الجزائر بعد سنوات سجنه الطويلة لكي يؤدي فريضة الحج، ومن هناك ذهب إلى فرنسا. كنت أنتظره بشغف ولهفة في غرفة متواضعة لصديق مشترك تولى ترتيب اللقاء. رحت أتخيله قبل وصوله عجوزاً محطماً تحت وطأة سني العمر وسني السجن، وإذا به يفتح الباب ويدخل بخطوات قوية، مبتسماً، صافحني... ما شاء الله، لم يتغير فيه شيء منذ أن رأيته آخر مرة في التلفاز سنة 1964، في مؤتمر القمة العربية الذي دعا إليه عبد الناصر. وبسرعة خاطفة أسقط الرجل كل الحواجز والفوارق بينه وبيني، وبدأ الحديث.
سألته، وتحدث كثيراً... عن الجزائر وفرنسا ومصالي الحاج ورفاقه الذين كانوا معه عندما نفذوا أول عملية مسلحة ضد الاحتلال. وعن السجن وهروبهم من السجن ولقائه الأول مع عبد الناصر... ثم تحدث عن رجالات ذلك العصر، أبطال حركات التحرر الوطني، موديبوكيتا وكوامي نكرونا وأحمد سوكارنو، وعن نيكيتا خروتشوف وشوان لاي وغيفارا وكاسترو وآخرين... وسألته: لماذا فشلتم؟
ـ من؟
ــ كلكم... حركة التحرر الوطني العالمية، لماذا فشلت في متابعة مسيرتها نحو أهدافها الوطنية الكبرى، ولماذا سقط أبطالها الواحد تلو الآخر.
فكّر قليلاً وقال:
ربما كانت هناك ثلاثة أسباب أو عوامل رئيسية. أولها هي أن حركات التحرر الوطني، بعدما طردت الاستعمار، كانت بحاجة لأن تتعلم الكثير. كيف تبني دولة الاستقلال. كيف تواجه ذلك الإرث الهائل من المصائب التي خلفها لنا الاستعمار. كيف تتصدى لمشكلات التخلف والفقر والأمية و... كنا بحاجة لأن نتعلم، ولكن الاستعمار لاحقنا بمعارك متواصلة فرضها علينا على كل الجبهات وفي جميع الميادين. لم تتوافر لنا إمكانية أن نقاتل في جميع المعارك طوال الوقت وأن ندرس ونتعلم.
والسبب الثاني هو أننا فشلنا (كان يقصد قوى التحرر والاشتراكية) في إنتاج نظام عالمي يواجه نظام الرأسمالية العالمي.
أما السبب الثالث – صمت برهة ثم قال – فكان الشعب معنا، يؤيدنا ويصفق لنا، لكننا فشلنا في تحويل التأييد إلى مشاركة فعلية، وفي تحويل التصفيق والهتاف إلى عمل وكفاح. كانت الأزمة في كيفية بناء التنظيم السياسي الملائم لاستكمال الثورة وبناء الدولة...
ثم قال: ولكن أنتم، ماذا تفعلون؟ وكان يقصد القوى العربية الوطنية التقدمية. من هذه النقطة انتقلنا إلى موضوع ظل النقاش حوله محور جميع لقاءاتي اللاحقة معه. أزمة القوى الوطنية، وكيف يمكن إعادة بناء حركة التحرر العربية.

■ ■ ■

«انتهت الثورة. بعد جمال عبد الناصر انتهت الثورة». هكذا جزم الدكتور عزيز صدقي. وقد كان ما قاله صحيحاً، ليس في مصر وحدها ولكن في الأمة العربية كلها أيضا. كانت ثورة 23 يوليو ثورة عربية بامتياز، من أجل حرية الأمة العربية ونهضة الأمة العربية ووحدة الأمة العربية.
أما بالنسبة لقوى الثورة العربية، الأحزاب والمنظمات الوطنية التقدمية، فقد كشف غياب عبد الناصر حقيقة قصورها... حقيقة تخلف وعيها السياسي، وعجزها عن استئناف مسيرة الثورة العربية بعد رحيل قائدها.
منذ 28 أيلول/ سبتمبر 1970 توالت أحداث كثيرة في أمتنا وفي العالم، وحصلت متغيرات هائلة. كانت رؤية هذه القوى لكل تلك الأحداث والمتغيرات سطحية جداً ومشوشة وضبابية. وكانت مواقفها منها تتسم بالكثير من الارتباك والانفعالية. وغلب على أدائها التخبط والفوضى، وفي أحيان كثيرة الانتهازية.
الأمثلة كثيرة. من موضوع «السلام» مع الكيان الصهيوني، إلى انهيار المعسكر الاشتراكي وطبيعة الحقبة التي تلت ذلك الانهيار، إلى الحرب العالمية التي تدور رحاها اليوم في طول العالم وعرضه. وتدور أشرس معاركها في المنطقة العربية. التكتلات التي تشكلت في خضم هذه الحرب العالمية، «شنغهاي» و«البريكس» إضافة إلى «الناتو»، والقوانين التي تحكم صراعاتها. «الفوضى الخلاقة» والمشروع الأميركي – الصهيوني لـ«الشرق الأوسط الجديد». غزو العراق، ثم هذا «الربيع العربي» الذي يكتب فصوله على أرضنا بالحديد والنار والدم. سوريا واليمن وليبيا وفلسطين والسودان، وفي القلب منها مصر...
في الحقيقة فإن أزمة الأمة العربية اليوم هي بالتحديد أزمة القوى الوطنية التقدمية العربية.
إنها، بتخلف وعيها السياسي وعجزها عن استنهاض مسيرة الثورة العربية بعد رحيل قائدها، استعاضت بالشعار عن المشروع، وانكفأت عن دورها في قيادة الشعب نحو أهدافه القومية العليا في التحرر والاشتراكية والوحدة، وتركت هذا الموقع للقوى الأكثر رجعية وتخلفاً وتبعية.
في ذكرى رحيل جمال عبد الناصر. وبعد ست وأربعين سنة من التقهقر والانكسارات والتخبط، لقد آن الأوان لكي نتعلم منه كيف نصوغ مشروعاً جدياً وعصرياً للنضال العربي من أجل الحرية، لنعمل بعد ذلك على إعادة إنتاج حركة تحرر عربية قادرة على حمل المشروع.
1 ــ أن نقرأ عالمنا كما هو، حركة الصراع فيه وقوانينها، التكتلات المنخرطة في هذا الصراع وميادينه.
2 ـ أن نحدد خياراتنا الاستراتيجية فيه. موقعنا من التكتلات الكبرى المنخرطة في هذا الصراع العالمي. النظام الإقليمي لـ«الشرق الأوسط» في المشروع الأميركي وكيف نتصدى له. رؤيتنا إلى النظام الإقليمي المواجه الذي يوفر لأمتنا أمنها القومي ووضعها من جديد في قلب العصر على طريق التحرر والتقدم والوحدة.
3 ــ موضوع الجبهة العربية القادرة على صوغ المشروع العربي الحديث، وتعبئة طاقات الشعب في كفاح عنيد وجاد ورصين من أجل تحقيق الأهداف العليا للأمة.
هذا بالضبط ما بادرت إليه قوى وطنية وتقدمية عربية في إطار «الجبهة العربية التقدمية» التي تأسست في 15 أيار/ مايو 2016. ولعلها في هذا تكون وفية لأمتها ولشعبها و... لجمال عبد الناصر.

رأي

العدد ٢٩٩٦ الخميس ٢٩ أيلول ٢٠١٦

الضاحية والبقاع... نهاية «حكم الزعران»

إرسال إلى صديق طباعة

توقيف المتهم بـ«جريمة الزيادين» و«رؤوس كبيرة» في تجارة المخدرات وفرض الخوّات

يبدو أن الدولة حزمت أمرها أخيراً بـ«استعادة» الضاحية الجنوبية والبقاع الى كنفها وتخليصهما من «الزعران». خطط الأمن بالتراضي العلنية السابقة لم تؤدّ إلا الى مزيد من ضرب هيبة الأجهزة الأمنية وتآكل رصيدها. بحسب مصادر أمنية: «القرار اتُّخذ ولا خيمة فوق رأس أحد»

وفيق قانصوه

أحد أهم عوامل قوة حزب الله يكمن في قوة الاحتضان الشعبي له. وفي هذه «البيئة الحاضنة» نفسها تكمن إحدى أبرز نقاط ضعفه. منها يخرج من يسيئون الى صورة المقاومة، فلا تواجههم دولة مستقيلة من واجباتها، ولا «دولة داخل الدولة» لطالما اتهم الحزب بإقامتها.

والنتيجة فلتان أمني وأخلاقي، وتفشّي المخدرات تجارة وترويجاً وتعاطياً، وعصابات تجبي «خوّات» علناً، و«جزر أمنية» تحكمها عائلات وعشائر، و«مافيات متخصصة» في كل شيء: مولّدات الكهرباء، واشتراكات «الساتالايت» والانترنت، وتوزيع المياه...
كل ذلك بات ينذر بانهيار الأمن الاجتماعي، خصوصاً في الضاحية، «عاصمة» حزب الله ومركز ثقله، كما في البقاع، «خزانه» الشعبي، حيث «يسرح» كبار تجار المخدرات وزعماء عصابات الخطف تحت نظر القوى الأمنية، وتستضيفهم المحطات التلفزيونية في عراضات عسكرية مصوّرة، فيما لم يعد الجنوب، «الخزان» الآخر للمقاومة، في منأى عن استهداف تجار المخدرات ومروّجيها، مع تسجيل زيادات مطّردة في أعداد المتعاطين، خصوصاً في منطقة النبطية وبعض قراها.


الخاسر الأكبر في كل ذلك هو حزب الله نفسه الذي يستغل خصومه الأمر لتصويب السهام عليه، فيما يطالبه جمهوره باجتراح حل يحفظ الأمن الاجتماعي في مناطق نفوذه. وبين هذا وذاك، ليس خافياً الإحراج الذي يقع فيه الحزب: فلا هو قادر على أداء دور رجل الأمن ولا هذه مهمته أصلاً، ولا هو ــــ في الوقت نفسه ــــ قادر على إقناع خصومه (أو أنهم لا يريدون الاقتناع) بأنه ليس حامياً لعصابات الزعران، ولشلل تقدّم انتماءها العشائري على الانتماء الحزبي أو السياسي.
في خطاب له في تشرين الثاني 2009، تحدث الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مطوّلاً عن محاولات لـ«تدمير بيئة المقاومة»، عبر تفشّي ظاهرة المخدرات. وفي تشرين الأول 2016، في خطاب عاشورائي، تحدث عن «كارثة عظيمة يواجهها مجتمعنا»، داعياً الدولة الى تحمّل مسؤولياتها. بين الخطابين، نظّم حزب الله حملة بعنوان «النظام من الإيمان»، في محاولة لمصالحة الناس مع القانون، وحثّهم على الالتزام بالنظام كجزء من «التكليف الشرعي». لكن الحملة لم تعش طويلاً، بعدما انشغل حزب الله والأجهزة الأمنية في مواجهة التهديدات الإرهابية، فكانت النتيجة زيادة وطأة الفلتان الأمني والأخلاقي. وزادت أزمة النزوح السوري الطين بلّة مع «اندماج» بعض هؤلاء في عصابات ترويج المخدرات وعصابات الخطف والسلب والدعارة، فيما ذهبت كل محاولات الاستنجاد بالأجهزة الأمنية أدراج الرياح. «استقالت» هذه الأجهزة من مهماتها، مرة بذريعة أنها «ممنوعة» من العمل في الضاحية (رغم مطالبات الحزب بزيادة عديد قوى الأمن في هذه المنطقة)، ومرات بحجة نقص العديد، ودائماً على خلفية سياسية لزيادة إحراج المقاومة مع جمهورها، خصوصاً أن الإطلالات التلفزيونية لكبار المطلوبين لا تخلو من توجيه التحيات للمقاومة وسيّدها!
أخيراً يبدو أن شيئاً ما تغيّر. من «بركات» العهد الجديد أن الأجهزة الأمنية قررت أخيراً الاقتناع بأن حزب الله، صاحب النفوذ الأقوى في الضاحية والبقاع، لا يغطّي أحداً، وأنه أكثر المتضررين من الفلتان الذي بات ينخر بيئته الاجتماعية. بناءً على ذلك، بحسب مصادر أمنية، «القرار اتُّخذ بإعادة هيبة الدولة الى هذه المناطق»، وبدأت بالفعل عملية أمنية واسعة لمطاردة كبار المطلوبين من تجار المخدرات ومتزعّمي عصابات الخطف والخارجين على القانون في الضاحية والبقاع.
خطط أمنية سابقة اعتمدت التراضي والاعلان المسبق عنها باءت بالفشل. الجديد اليوم، بحسب المصادر نفسها، أن الحملة التي بدأتها الأجهزة الأمنية منذ أكثر من شهر وتكثفت أخيراً، قائمة على مبدأ أساسي: «لا أمن بالتراضي ولا خيمة فوق رأس أحد». وفي هذا السياق، جاءت عمليات الدهم لحي الشراونة في بعلبك الإثنين الماضي، إذ استهدفت منزل نوح زعيتر، أحد أشهر المطلوبين. ورغم أن العملية لم تنته بتوقيفه، إلا أنها رسالة واضحة بأن الحملة «لن تكتفي بصغار المطلوبين ولن توفّر الرؤوس الكبيرة التي تعتقد بأنها في منأى عن الوقوع في قبضة الأجهزة الأمنية».
عمليات الدهم، خصوصاً في الضاحية والبقاع، شبه يومية منذ أكثر من شهر. وتؤكد المصادر أنه جرى عملياً «كسر مربعين أمنيين لكبار المطلوبين في منطقتي الليلكي وحي الجورة»، فيما تصف غلّة التوقيفات، منذ منتصف شباط الماضي، بأنها «محرزة»، وتتضمن «أسماءً كبيرة جداً». الأبرز بينها ع. شمص، أحد المتهمين بارتكاب «جريمة الزيادين» (الشابان زياد الغندور وزياد قبلان عام 2007 بعد اختطافهما)، وأكثر من عشرة من متزعّمي عصابات فرض الخوّات في الضاحية من أبناء إحدى العشائر البقاعية (عثر في حوزة أحدهم على ما قيمته أربعة ملايين دولار من الهيرويين)، وف. المنذر، أحد أكبر تجار المخدرات في «حي الجورة» في برج البراجنة. والأخير كان يقيم ما يشبه مربعاً أمنياً، إذ عُثر على أكثر من 40 كاميرا للمراقبة نصبها في هذه المنطقة، وكاد توقيفه يتسبب في إحداث مجزرة في القوة المداهمة بعدما تبيّن أنه لغّم باب منزله بعبوتين ناسفتين لم تنفجرا. كذلك أوقف العشرات بتهم الاتجار بالمخدرات وترويجها  وفرض خوات وإطلاق نار وسلب بقوة السلاح وتزوير ودعارة وإثارة الشغب وإطلاق نار، علماً بأن العبء الأكبر في هذه التوقيفات يقع على مديرية المخابرات في الجيش وعلى مفرزة استقصاء جبل لبنان، فيما يُسجّل غياب تام لمكتب مكافحة المخدرات!
وتؤكد المصادر أن «مطلوبين كباراً سيجري توقيفهم قريباً، وأن عمليات الدهم اليومية لن تتوقف في الضاحية وفي كل مناطق البقاع الشمالي وصولاً إلى الهرمل والقصر والشواغير»، مؤكدة أن منطقة البقاع «ستلمس النتائج الايجابية لهذه الحملة خلال أسابيع».
تجدر الاشارة الى أن فشل توقيف بعض المطلوبين، وآخرهم زعيتر الذي توارى قبل نحو نصف ساعة من وصول القوة المداهمة اليه، يشير الى «اختراق ما» يسمح بإيصال معلومات الى المطلوبين، وهو ما يجري العمل على معالجته جدياً. فيما تواجه القوى الأمنية التي تعمل في الضاحية، وفي البقاع إلى حد ما، مشكلة جوهرية، وهي أن أغلب عناصرها من العائلات المقيمة في هاتين المنطقتين، وأن قسماً كبيراً منهم أبناء عشائر ينتمي اليها كثير من المطلوبين، ما يؤدي أحياناً الى تواطؤ بين الطرفين، أو في أحسن الأحوال الى إحجام هؤلاء العناصر عن القيام بمهماتهم خشية إثارة مشاكل عشائرية.

 


مكتب مكافحة المخدرات غائب عن السمع

منذ تسلم العميد غسان شمس الدين رئاسة مكتب مكافحة المخدّرات التابع للشرطة القضائية، بدا واضحاً، بالنسبة إلى أمنيين وسياسيين، التراجع الكبير الذي أصاب عمل هذا الجهاز على كامل الأراضي اللبنانية لناحية توقيف كبار التّجار والمروّجين. وفي حين يتذرّع البعض بأن العمل الأمني داخل الضاحية الجنوبية صعبٌ بسبب نفوذ حزب الله وأجهزته، وفي ذلك تبريرٌ للتقصير الذي يمارسه المكتب في هذه المنطقة تحديداً، تدحض حركة التوقيفات والنشاط الذي تقوم به استخبارات الجيش واستقصاء جبل لبنان لناحية توقيف تجّار ومروّجين داخل الضاحية هذه النظريّة. ومع أن تقصير مكتب مكافحة المخدّرات لا يظهر في الضاحية وحدها، بل في كلّ لبنان، وهذا دليلٌ آخر على سقوط نظرية صعوبة العمل الأمني داخل الضاحية، يعتقد البعض بأن تراجع عمل المكتب في الضاحية بشكل أكبر من مناطق أخرى يبدو مقصوداً بهدف الإساءة إلى حزب الله وجمهوره، وإغراق الضاحية وأهلها بالمخدّرات وتجّارها، بذريعة القبضة الأمنية لحزب الله، وهو ما لا تشكو منه الأجهزة الأخرى التي تعمل بحريّة وتوقف المطلوبين. ويبدو التقصير في عمل مكتب مكافحة المخدّرات وشمس الدين مسحوباً على كامل عمل جهاز الشرطة القضائية، الذي سجّل غياباً لافتاً عن العمل الأمني منذ تولّي العميد ناجي المصري قيادته. فحتى في ملفات مثل الدّعارة والقمار وتجارة الأسلحة، يغيب الجهاز عن لعب دوره، ولعلّ أبرز مثال هو قيام استقصاء جبل لبنان بضبط أكبر شبكة للاتجار في البشر العام الماضي، بدل أن يكون مكتب مكافحة جرائم الآداب سبّاقاً إلى القيام بعمله.

سياسة
العدد ٣١٣٦ الجمعة ٢٤ آذار ٢٠١٧

أزمة اليسار: «خيانة» هولاند

إرسال إلى صديق طباعة

في العام الأخير من حكمه، ساءت صورة الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، أمام الرأي العام في بلاده بشكل كبير، وتعرّض عهده لانتقادات قاسية، ليس من المعارضة اليمينية فحسب، بل من معسكر اليسار ومن جزء من «الحزب الاشتراكي»

لور الخوري

 قبل أسبوعين، جهد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، في خطاب له، لتصوير نفسه كضمانة للفرنسيين، طارحاً نفسه بشكل غير مباشر كمرشح محتمل للرئاسة من جديد، على الرغم من أنه بات محاصراً من خصومه وأصدقائه، وحتى من الرأي العام.

وبدا كأنه يريد الهروب من وصمة سوداء قد تلاحق عهده حتى ما بعد نهايته، وهي أنه «السبب في تشتيت اليسار لا بل تدميره».
وبالأرقام، فإن حظوظ اليسار لتولي الرئاسة عام 2017 تتراجع، ففي آخر استطلاع للرأي، تبيّن أن احتمال هزيمة هولاند، أو أي مرشح آخر من اليسار، كبير جداً. وقد أظهر الاستطلاع الذي أجراه معهد «بي في أي»، أن وزير الاقتصاد السابق، إيمانويل ماكرون، الذي وصفه هولاند بـ «الخائن»، قد يتخطى الرئيس، متعادلاً مع مرشح «حزب اليسار»، جان لوك ميلنشون.

"بدأت خيانة هولاند الأصلية بخطابه في بورجيه قبل 4 سنوات"

مع ذلك، يحاول هولاند التأكيد أن اليسار لم يمت، وأن نموذج اليسار في إدارة الحكم لم يغيّر من جوهره. وعند سؤاله عن مستقبل الاشتراكية، في مقابلة مع مجلة «لوديبا» قبل أسبوع، رفض الرئيس الفرنسي فكرة أن «العولمة قد قلّصت أو محت هذا الأمل وهذا الطموح» الذي هو اليسار. لكن خلاصة عهد هولاند، مع ما حملت من «إصلاحات» في قانون العمل والاقتصاد، إضافة إلى التدخلات الخارجية في أفريقيا والشرق الأوسط، جعلت منه «خائناً لليسار»، لا بل «خائناً لفكرة اليسار نفسه»، وفق دراسة «كتاب الخيانات» لمجموعة باحثين، بإدارة الباحث في نظريات القانون لوران دو سوتير. ويفصّل الكتاب إخفاقات العهد التي قال إنها «مجموعة وعود أطلقها هولاند قبل توليه منصبه في عام 2012، لكنه لم يحقق منها شيئاً».
ومع أن الرئيس الفرنسي رأى في مقابلته أن «الهوامش بين اليمين واليسار تبقى أساساً للديموقراطية»، لكن «كتاب الخيانات» يصف عهده بأنه ليس سوى «نسخة منمّقة» من عهد الرئيس الأسبق، اليميني نيكولا ساركوزي. وعن ذلك يقول هولاند في المقابلة إنه كان واضحاً جداً في حملته الرئاسية لعام 2011: «تحدثت عن تغييرات وليس عن قطيعة» مع العهد السابق. أما اليسار «البديل»، وفق هولاند، فما هدفه إلا أن «يصيب الدولة بالشلل»، لكن «يسار الحكم» عندما يصل إلى السلطة، «يصبح محكوماً بتصرفاته ويتهم بالخيانة».
يكمل هولاند وصف نفسه بأنه اشتراكي ديموقراطي أو اشتراكي ليبرالي، معبّراً عن الفكرة بالقول إنها «ليبرالية من دون وحشية»، ومضيفاً: «لست ليبرالياً بما يعنيه ذلك من منطق أن السوق يجب أن يجرف كل شيء، أنا اشتراكي، لكنني لست مع اشتراكية أدوات الإنتاج».
وهذه هي «الخيانة الأصلية» لهولاند، التي بدأت بخطابه في بورجيه في كانون الثاني 2012، وفق «كتاب الخيانات». في ذلك الخطاب حدّد الرئيس عدوّه الأول، وهو «عالم المال الذي لا اسم له ولا وجه ولا حزب». لكنه حين أصبح في السلطة أعطى هذا العالم اسماً وحزباً، وفق الكتاب الذي يشير إلى أن «الاسم هو هولاند والحزب هو الحزب الاشتراكي». هولاند لا يلوم نفسه، بل يقول إن «اليسار يكون جميلاً عندما يكون في المعارضة»، لكنه «يُتهم بالخيانة ويصبح محكوماً بتصرفاته عندما يكون في السلطة». ويتابع الرئيس الفرنسي بالدفاع عن الإصلاحات التي قام بها، قائلاً: «طوال خمس سنوات، بحثت عن وضع أسس حوار مع إدارة حديثة ونقابات إصلاحية... وإعطاء الشركاء في المجتمع لكلّ مكانته، هذا هو الهدف من قانون العمل».

دوليات

العدد ٢٩٩٦ الخميس ٢٩ أيلول ٢٠١٦

 

التحركات في الشارع معلّقة: لا إطار موحداً ولا مطالب مشتركة

إرسال إلى صديق طباعة

كما في صيف عام 2015، فشلت الأحزاب والمجموعات المشاركة في التحركات ضد «الضرائب التي تصيب الطبقات الفقيرة والمتوسطة» في بناء «توافق» الحد الأدنى؛ فلا إطار تنسيقياً موحداً، ولا مطالب مشتركة، ولا مفاوضات مع السلطة، ولا مواعيد لاستكمال التحركات المقبلة... هذه هي حصيلة الاجتماعات الماراتونية التي انتهت أول من أمس

فيفيان عقيقي

عقدت الأحزاب والمجموعات التي شاركت في تظاهرة الأحد "ضد الضرائب على الطبقات الفقيرة والمتوسطة" سلسلة اجتماعات، انتهت أول من أمس. تمحورت المداولات حول: 1- تقييم التظاهرة.

2- المطالب. 3- التفاوض مع الحكومة والردّ على دعوة تلفزيون الجديد لإجراء مناظرة علنيّة مع رئيس الحكومة سعد الحريري. 4- التحركات المقبلة. جرت نقاشات مطوّلة لهذه البنود الأربعة، وظهرت تباينات وتناقضات واسعة بين المشاركين، فانتهى الأمر إلى لا شيء: يبقى الأمر على ما هو عليه. كل حزب أو مجموعة تصدر مواقفها ومطالبها الخاصّة وتنظّم تحرّكاتها ونشاطاتها باستقلاليّة... ولا تنخرط في عمل جامع إلا في سياق ردّ الفعل على حدث ما أو قرار ما في مواجهة الحكومة ومجلس النواب.
حُسمت كل البنود في الاجتماع الأخير في مقر الجمعيّة اللبنانيّة لديمقراطية الانتخابات، والذي استغرق أكثر من ساعتين، وضمّ نحو 50 شخصاً يمثلون طيفاً واسعاً من الاحزاب والحركات والمجموعات. بحسب مشاركين في الاجتماع، كان هناك نيّة مُسبقة لدى الغالبية لرفض أي إطار موحّد للتنسيق والعمل، وجرى الاتفاق على أن تستكمل كلّ جهة نشاطاتها الخاصّة. في هذا السياق، بدا أن هناك شبه إجماع على أن تظاهرة الأحد حقّقت الهدف المرجوّ منها، وقد تبلور ذلك بردود الفعل عليها من قبل رموز السلطة.
تقول مصادر الاجتماع أن الحيّز الأكبر من النقاش كان حول التفاوض مع الحريري. اقترح "المرصد اللبناني لحقوق العمال والعاملات" وحركة "مواطنون ومواطنات في دولة" وضع لائحة بالحلول المُمكنة لتمويل السلسلة، وتشمل فرض ضرائب على المضاربات العقاريّة والمصارف، إلّا أن الجوّ العام كان ضدّ التفاوض مع السلطة؛ ويقول نائب أمين عام حزب الكتائب باتريك ريشا إن "المطالب واضحة، وعلى السلطة القيام بمبادرة حلّ، مش شغلتنا نقدّم حلول، نحن حدّدنا مكامن الهدر والفساد وعليها أن تتحرّك". لا يبدو موقف الكتائب لناحية رفض التفاوض مختلفاً عن رأي المجموعات الأخرى. يقول مروان معلوف (من أجل الجمهوريّة) إن "تجربة الحوار مع السلطة غير مشجّعة، فنحن قدّمنا حلولاً في عام 2015 واتفقنا معها على خطط بيئيّة، لكن لم ينفّذ أيّ منها، وتالياً لن نكرّر أخطاء الحراك نفسها"، فيما يشير أحمد الحلاني (بدنا نحاسب) إلى أن "الدولة مُلزمة بتقديم البدائل، وأن تحدّد الموارد الضريبيّة لتمويل سلسلة الرتب والرواتب". في المقابل، يرى وديع الأسمر (طلعت ريحتكم) أن المبادرة المطروحة غير مكتملة المعالم وغير محدّدة الشروط، لكون المطالب معروفة، و"طوشناهم فيها"، ويضيف الأسمر: "التفاوض يجب أن يكون على حلول بديلة ومع الحكومة كلّها".


شبه الإجماع الذي ناله طرح التفاوض مع السلطة، لم ينسحب على الخروج بمذكرة مطالب محدّدة وموحّدة. في مناقشات هذا المحور ظهر التباين الأكبر في المواقف، فعلى ماذا نتفاوض مع السلطة؟ المواقف الوحيدة الواضحة حيال فرض الضرائب على أرباح المصارف والمضاربات العقارية، تبنّاها كلّ من الحزب الشيوعي، واتحاد الشباب الديمقراطي، وبدنا نحاسب، ومواطنون ومواطنات في دولة، وطلعت ريحتكم، ومن أجل الجمهوريّة، في حين حصر حزب الكتائب مطالبته بفرض ضريبة على "الأرباح الخياليّة التي حقّقتها المصارف من الهندسات الماليّة"، بحسب ما يشير باتريك ريشا، فيما رفض حزب الأحرار تحويلها إلى مطلب كامل المجموعات، باعتبار أن "هناك خلافاً على السياسة الضريبيّة الواجب اتباعها، ومن المفضّل حصر المواجهة بالضرائب المُتفق على رفضها، أي التي تطال الفقراء". أمّا حزب سبعة، وبيروت مدينتي، وحركة 14 آذار مستمرون، فلم يعلنوا أي موقف منها. يقول جاد داغر، أحد مؤسّسي حزب "سبعة"، إن "السلطة فقدت صدقيّتها، ونحن لا نثق بها، حتى ولو كانت الضرائب التي تقترحها محقّة، إضافة إلى أننا كحزب ننبذ الخطاب الطبقي، ولا نطالب بفرض ضريبة على المصارف باعتبار أنهم يملكون الأموال، نحن مع الضريبة التصاعديّة التي تحقّق العدالة الاجتماعيّة"، فيما عبّرت حركة 14 آذار مستمرون عن موقفها في بيان، صدر أمس، ولم تلحظ فيه هذه الضرائب، بل شدّدت على "الحدّ من الهدر والفساد لتمويل السلسلة". من جهته، حاول الحزب الشيوعي واتحاد الشباب الديمقراطي صياغة موقف من المسألة الضريبيّة يقبله الجميع، فتخلى ممثلوه عن طرحهم الأساسي بدعوة المجموعات والأحزاب الأخرى الى تبنّي "البيان الوزاري البديل" الذي أعلنه الحزب قبل مدّة، وصاغوا بياناً سقفه أخفض لتسويقه، يتضمّن رفضاً لأي ضريبة غير مباشرة وتبنّي للضريبة المباشرة التصاعديّة، ولا سيما على أرباح المصارف وشركات الأموال والقطاع العقاري، فضلاً عن مكافحة التهرب الضريبي والفساد، وتحصيل حقوق الدولة المسلوبة من استغلال الملك العام، ولا سيما الأملاك العامة البحريّة. لم تنجح هذه المحاولة، كما لم تنجح محاولات أخرى في السياق نفسه.
ماذا بعد 19 آذار؟ ترى المجموعات أنها حقّقت مطلبها الأساسي، أي "منع السلطة من فرض ضرائب على الفقراء والطبقة الوسطى"، وتالياً حقّقت "انتصاراً". تتوجّه كلّ مجموعة لتنفيذ أجندتها باستقلاليّة. يقول وديع الأسمر من "طلعت ريحتكم" إنه "ليس هناك أي ضرورة للدعوة إلى تظاهرات دائمة، واستهلاك الناس بتظاهرات من دون أفق. التظاهر هو وسيلة وليس غاية، والآن هناك خطوات أخرى سنقوم بها، مثل شرح الضرائب والسلسلة"، فيما يشير مروان معلوف (من أجل الجمهوريّة) إلى أن "الهدف اليوم هو إبراز ما حقّقته المطالبة الشعبيّة بتعليق الضرائب، على أن يتمّ تنسيق الخطوات التاليّة مع المجموعات والناس". ويشير أحمد الحلاني (بدنا نحاسب) إلى وجود "توجّه لخلق إطار تنسيقي مشترك بين المجموعات الأساسيّة المتقاربة لتنسيق الخطوات اللاحقة". أمّا التصوّر الأكثر وضوحاً فيبقى لدى الحزب الشيوعي واتحاد الشباب الديمقراطي؛ يقول حسن يونس، نائب رئيس اتحاد الشباب الديمقراطي، إن "التحرّكات مستمرّة في مناطق مختلفة للضغط باتجاه إقرار الضرائب على المصارف والريوع العقاريّة وإقرار السلسلة، على أن يترافق ذلك مع مناقشات مع المجموعات الأخرى على العناوين الأساسيّة لتحديد أطر التلاقي".

 

يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | VIVIANEAKIKI@
مجتمع واقتصاد
العدد ٣١٣٥ الخميس ٢٣ آذار ٢٠١٧

JPAGE_CURRENT_OF_TOTAL