- الوثيقة السياسية وخطة العمل

طباعة

أ‌- مقدمة عامة:

في ربيع العام 1975 اندلعت الحرب اللبنانية في مناخ سياسي، محلي وإقليمي، كان ينذر باحتمالاتها. ثم انتشرت بسرعة هائلة لتعم المناطق اللبنانية كافة تشعل النار في هشيم الصيغة الطائفية لـ"التعايش"، وتزعزع أركان النظام المستند على الصيغة تلك.

ولئن كان من المشروع التساؤل عن دور القوى الخارجية في إشعال الحرب اللبنانية وإدارتها، فإن السؤال الأولى بالإجابة هو الذي يتناول واقعنا، وبخاصة على صعيدي "الصيغة" والنظام السياسي، من حيث احتضانه لبذور الحرب ورعايتها.

لقد توقفت الحرب بعد مضي أكثر من خمسة عشر عاماً على انطلاق شراراتها الأولى. ولكن آثارها العميقة ما تزال ماثلة أمامنا في مختلف جوانب حياتنا:

في الدمار الذي أصاب المرافق العامة، وفي الطبقة السسياسية التي استولت على السلطة وصادرت الحياة السياسية بالكامل تقريباً، وفي المجتمع وثقافته وعصبياته، وفي الإدارة والقضاء والجامعة والمدرسة. ولكن، قبل أن نطرح السؤال عن كيفية التصدي لكل هذه المشكلات التي خلفتها الحرب، هناك سؤال بديهي لا يمكن تجاهله: وهو هل انتهت الحرب؟

ذلك أن ثمة فارقاً كبيراً بين وقف الحرب وانتهاء الحرب...أي بين وقف إطلاق النار، والتصدي للعوامل الأساسية والأسباب التي أدت إلى اندلاع القتال.

فما هي العوامل الداخلية، وما هي الأسباب الخارجية للأزمة اللبنانية التي لم تكن الحرب اللبنانية إلا انعكاساً لها؟


 

العوامل الداخلية للأزمة – الطائفية:

أولاً: لازمت مسألة الطائفية تاريخ لبنان الحديث وتفشت فيه على أثر ظهور بوادر الانحلال في الإمبراطورية العثمانية المتزامن مع بدايات التغلغل الاستعماري الحديث نسبياً في هذه المنطقة. فقد أغرى الضعف الذي أصاب الامبراطورية العثمانية (الرجل المريض) منذ بدايات القرن الثامن عشر القوى الاستعمارية بالنفاذ إلى هذه المنطقة بحجة حماية الأقليات. كما شكل التخلف الاجتماعي في جسم الامبراطورية، وما رافقه من ركود ثقافي وقهر سياسي، البيئة الملائمة لنمو العصبيات، وبدلاً من أن يكون التناغم الديني في لبنان مصدراً لثراء روحي وثقافي وحضاري، عملت بعض القوى المحلية – بتشجيع من القوى الاستعمارية – على تحويل الدين إلى إيديولوجيا طائفية ومذهبية ليسهل على هذه القوى إحكام قبضتها على المجتمع بأسره.

لقد تكيفت الطائفية على الدوام مع الحقب التي تعاقبت على لبنان ومحيطه من دون أن تبدل جوهرها المتخلف واللاديمقراطي، ومن دون تبدل وظيفتها في تمكين أواصر التبعية للخارج والارتهان له.

في كل الحروب والأزمات التي شهدها لبنان، وجد أطراف الصراع في الداخل من يغذي لديهم أوهام مشروعات فئوية بالغة الخطورة، تجاوزت في ممارستها والسعي إليها كل الحدود وانتهكت كل المحرمات. ولقد كان أول تلك المحرمات هو الاستقلال الوطني.

إن الطائفية، بما هي امتداد لنفوذ خارجي متعدد الأطراف، كانت تعكس في توازناتها السياسية داخلياً حالة النظام الإقليمي بالتدخلات الدولية المتشابكة فيه. وبالتالي كان كل تحول في موازين النظام الإقليمي – بل والنظام الدولي أيضاً – يؤدي إلى تدمير "السلام" الطائفي الهش، وكان يكشف أيضاً مدى ضعف السيادة الوطنية وهزالها.

وبسبب القيود التي فرضتها "توازنات الصيغة لم يتمكن لبنان من تطوير نخب حديثة تواكب تطوره الاجتماعي والثقافي. وقد أدى ذلك إلى تخلف السلطة وعجزها عن مواجهة مشكلات التطور الاجتماعي وتفاعلاته في الداخل. كما أدى إلى عجز هذه السلطة عن مواجهة المتغيرات الخارجية التي تعصف من حولنا.

كانت حقائق التطور الاجتماعي والفكري تفرض مضامين جديدة للتناقضات، وبالتالي للصراعات الاجتماعية والفكرية والسياسية. وكان يمكن لهذا الصراعات، في مناخ ديمقراطي سليم، أن تبقى سلمية، وأن تنحو بالمجتمع نحو التقدم والاندماج. غير أن القيود الطائفية "للصيغة" كانت تصادر هذا التفاعل لمصلحة تناقضات العصبيات المتخلفة، وصراعاتها التناحرية الدموية والمدمرة.

وهنا لا بد من التأكيد على الحقائق التالية:

1)التناقض بين الطائفية والديمقراطية: الطائفية عامل عضوي في التركيب البنيوي للنظام، وبذلك فهي تعوق ممارسة الديمقراطية وتطورها.

2)التناقض بين الطائفية والوطنية: إن تظافر العامل الطائفي الداخلي والنفوذ الخارجي قد أتاح في ظروف معينة إنتاج كيان سياسي، لكنه عوق وشوه عملية تحول الكيان إلى وطن، وذلك بسبب التباس الولاء بين الطائفة والوطن.

3)لقد حدد منشأ الطائفية – بما هي عامل داخلي وامتداد لنفوذ خارجي متعدد الأطراف – وظيفة ثابتة في خدمة ذلك النفوذ. وبالتالي فإن هذه الصيغة في الداخل اللبناني كانت تعكس صورة النظام الإقليمي بالتأثيرات الدولية فيه.

العوامل العربية والإقليمية للأزمة اللبنانية:

كما ذكرنا سابقاً كانت الطائفية، في مكوناتها الأساسية، وليدة التغلغل الاستعماري في بلادنا. ولقد حدد منشأها هذا وظيفة ثابتة في خدمة النفوذ المتعدد الأطراف. وبالتالي فإن هذه "الصيغة" في الداخل كانت تعكس صورة النظام الإقليمي، بالتأثيرات الدولية فيه؛ كما كانت تعكس أحوال النظام وتفاعلاته.

تترتب على هذا نتيجة منطقية، أكدت صحتها الأحداث التي عصفت بلبنان في فترات متقاربة نسبياً خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي أن كل تغيير كان يصيب النظام الإقليمي كان ينعكس على توازنات "الصيغة" واستقرارها.

حدث هذا في الفترة الممتدة ما بين عامي 1840 و 1861. فعلى أثر هزيمة محمد علي باشا، ومع نتائج الحرب العالمية الأولى، وعلى ضوء الاتفاقيات والوعود (سايكس – بيكو ووعد بلفور) تحددت عناصر الاضطراب السياسي والتجزئة في المنطقة العربية.

1-لقد شكل قيام إسرائيل سنة 1948 على أرض قلسطين منعطفاً مصيرياً ومحطة تغيير جذري في الواقع العربي والإقليمي.

ومع بداية الخمسينات، وبعد زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، شهدت المنطقة العربية تغييرات كثيرة، وكان أبرز هذه المتغيرات قيام العديد من الحركات التحررية، أهمها ثورة 23 تموز في مصر، وفي سياقها تصاعدت أجواء الصراع بين المشروع القومي العربي (الذي كان من أهدافه التحرر والوحدة) ومشروع تجديد السيطرة الاستعمارية على المنطقة.

وبلغ الصدام بين هذين المشروعين ذروته في العدوان الثلاثي الإسرائيلي – البريطاني – الفرنسي على مصر عام 1956، وكان من نتائجه تحويل الاضطراب السياسي في لبنان إلى فتنة حصلت في العام 1958 وعرضته للانشقاق وكاد ينفجر تحت وطأة الصراع السياسي والانقسام الطائفي.

2-استمرت عوامل الصراع بين المشروعين حتى انفجرت حرباً في الخامس من حزيران 1967. وكانت الولايات المتحدة الأميركية (بدلاً من بريطانيا وفرنسا) هي التي تقف وراء العدوان الذي شنته "إسرائيل" على مصر وسوريا وفلسطين، فنجحت في إحداث خلل في ميزان قوى الصراع العربي الصهيوني لمصلحة الدولة العبرية.

وفي لبنان وجد بعض أهل الحكم في هذا الاختلال فرصة للاستقواء بـ "إسرائيل" ورفعوا راية الانسحاب سياسياً وعسكرياً من دائرة المواجهة معها، وتصاعدت الدعوة إلى "حياد" لبنان في الصراع العربي – الإسرائيلي.

3-وبسبب التباس القاعدة التي يستند إليها الحكم في لبنان بين الدستور المكتوب والصيغة الطائفية، فإن الصيغة هذه أتاحت قيام حكم ولكنها منعت قيام نظام.

وفي هذا الوقت كانت جذوة المقاومة الفلسطينية تتصاعد بعد هزيمة 1967، وامتد نفوذ الفصائل الفلسطينية حتى شكل عبئاً ثقيلاً لم تستطع أن تتحمله الصيغة اللبنانية، فتداعت تحت وطأة القرار الإسرائيلي بتفجير الحرب الأهلية مستغلاً حالة الانتشار الفلسطيني وتدخله في الوضع اللبناني.

4-على أثر حرب تشرين 1973، وبسبب سياسة الصلح مع إسرائيل التي انتهجها النظام المصري بداية – والنظام الرسمي العربي بعده – برزت سمات مرحلة جديدة في تاريخ لبنان الحديث، ومخططاً تناسلت أحداثه حروباً إسرائيلية على لبنان:

أ-اجتاح الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان سنة 1978 واحتل جزءاً كبيراً من أرض الجنوب وأعلن قيام دولة "لبنان الحر" بقيادة العميل سعد حداد.

ب-ثم قامت إسرائيل بغزو لبنان عام 1982 وتوغل جيشها في عمق التراب اللبناني واحتل العاصمة بيروت. وقد أدى ذلك إلى اختلال التوازن في "الصيغة" اللبنانية لصالح فريق مستقوٍ بهذا الاحتلال. وفي مواجهة ذلك انطلقت المقاومة الوطنية اللبنانية كرفض للاحتلال الإسرائيلي والإصرار على متابعة النضال من أجل تحرير الأرض.

ج-في ذلك الوقت وقعت السلطة اللبنانية مع "إسرائيل" اتفاقاً بتاريخ 17 أيار 1983 ينص على إنهاء حالة الحرب والعداء بين لبنان والعدو، وعلى تطوير العلاقات المتبادلة بينهما، وعلى ترتيبات أمنية. وأدى هذا الاتفاق، من بين أمور كثيرة على إعادة تجديد الانقسام في لبنان.

الطائف:

منذ أن اختتم مؤتمر الطائف أعماله بوضع "وثيقة الوفاق الوطني" بادر أهل السياسة والإعلاميون إلى الترويج له بوصفه "مصالحة تاريخية بين اللبنانيين"، كما يدل عنوان الوثيقة. لكن اللبنانيين، بحسب مضمون "الوثيقة"، ليسوا حقاً مواطنين يجمعهم الولاء إلى الوطن ليشكلوا شعباً، بل رعايا في مذاهب وطوائف يجمعهم "الوفاق" ويفرقهم "الانتماء". وهكذا فإن "الوثيقة"، إذ تكرس تعددية الانتماء المذهبي المفروض سلفاً على المواطن...بالولادة، فإنها بالتالي تكرس الحل التقليدي، المؤقت والمتفجر بطبيعته وظروفه.

ان أول ما يجب التذكير به، كمنطلق لتفسير "الطائف"، هو إن القرار بعقد المؤتمر اتخذ في القمة العربية الاستثنائية التي انعقدت في المغرب خلال شهر أيار من العام 1989. وفي القمة تلك حسمت مسألة توجه النظام الرسمي العربي نحو "السلم مع إسرائيل". كما حسمت مسألة الأطراف العربية في هذه التسوية، أحجاماً ووظائف: ولقد كان الحضور العربي – السعودية والجزائر والمغرب – في مؤتمر الطائف بمثابة شاهد، تحديداً على اتفاق أميركي – سوري بشأن "حجم سوريا في عملية التسوية؛ وكان لبنان أحد أبرز مواضيع هذا الاتفاق.

وعليه، فإن التفسير الصحيح لمؤتمر الطائف ونتائجه يجب أن يستند إلى مسألتين متكاملتين:

أ-التحولات الإقليمية في مرحلة الإعداد لعملية "السلام" بين الدول العربية و"إسرائيل"، بما هي خطوة على طريق إعادة رسم صورة النظام الإقليمي للشرق الأوسط.

ب-إعادة صوغ المعادلة الداخلية (الطائفية) مؤقتاً، بما يتلاءم وتلك التحولات...وبالتالي إعادة توزيع الوظائف السياسية على الطوائف والمذاهب.

 

الجمهورية الثانية:

لقد نجح اتفاق الطائف في وقف الحرب الأهلية في لبنان، فهل نجح في بناء دولة ما بعد الحرب؟ وهل نجح في إرساء سلام داخلي لا يحمل بذور الحرب؟ وهل نجح في رسم صورة الوطن الي تطمح إليه أجيال ما بعد الحرب؟

إن نظرة متملية لمرحلة ما بعد الطائف وللجمهورية الثانية التي أنجبها تؤكد أنه لم ينجح في شيء من ذلك. والدلائل كثيرة:

1-الطبقة السياسية الجديدة:

حل اتفاق الطائف والطبقة السياسية "التقليدية" في لبنان قد ترهلت ودب الوهن في القدرة السياسية لأغلب من تبقى منها بعد أن غيب الموت العديد من أقطابها البارزين آنذاك. وكان لا بد مع انطلاقة الجمهورية الثانية من إعادة إنتاج طبقة سياسية جديدة. وبفعل عوامل داخلية وخارجية تشكلت هذه الطبقة السياسية الجديدة من قوى أنتجتها الحرب وغذتها، فتسللت تحت شعارات "الوفاق" و"تذويب الميليشيات في المجتمع" لتسيطر على مواقع هامة في السلطة والحكم والإدارة. وبفعل تلك العوامل الخارجية والداخلية نفسها تحالفت تلك القوى مع رأسمالية وافدة، هجينة، مقطوعة الجذور، مفترسة ومضاربة. فتشكلت "الطبقة السياسية" الجديدة وتكاملت عناصرها وتجانس أعضاؤها فأحكمت قبضتها على السلطة، وتخلصت بشكل منظم ومطرد من كل من لا ينتمي إليها، وقذفت به خارج الحياة السياسية.

أ-إعادة إنتاج الصيغة الطائفية واللاديمقراطية:

وهكذا امتلكت هذه "الطبقة السياسية" قوة السلطة عبر سلطة القوة وقوة رأس المال، فصادرت الحياة السياسية ضمن الإطار الطائفي والمذهبي، وأعادت إنتاج الصيغة الطائفية، مرسخة العصبيات والمذهبية بشكل لا يقل حدة عما شهدناه في فترات الحرب، وتمكنت من سد كل منافذ الحياة السياسية: فعملت على الحد من الحريات الديمقراطية، وصادرت الإعلام، وضربت أو شرذمت مؤسسات المجتمع المدني، من النقابات إلى الجمعيات، التي شكلت الأدوات الأساسية للجماهير في نضالها الديمقراطي ونضالها المطلبي الاجتماعي.

ب-الفساد:

عم الفساد في السلطة والإدارة والأجهزة والمؤسسات العامة والقضاء، وصار نهجاً وأسلوب حكم. أُهدر الدستور وتعطل حكم القانون، أو انه سخر لخدمة المتنفذين والمحظيين. وتفسخت أو انهارت مؤسسات إدارية، وتعاظم شأن مؤسسات ومجالس وصناديق أخرى، أُنشئ معظمها خلافاً للقانون، وعملت كلها خارج القانون وبعيداً عن مؤسسات الرقابة المهمشة وأنظمتها.

ج-إدارة الظل:

تورمت الإدارة بالمحاسيب والأزلام، فزادت كلفتها وقلت إنتاجيتها. وفي موازاة الإدارة التي همشت، وكبديل منها، تم إنشاء العديد من المؤسسات التابعة لأركان السلطة مباشرة في مجال الخدمات العامة التي تتولاها الدولة، فشكلت إدارة ظل تخطط لعمل السلطة وتنظم مشاريعها خارج المؤسسات الشرعية وبشكل مخالف للقوانين، وبعد أن تقرر تعود إلى الإدارات الشكلية للدولة فتقر تلك المشاريع لكي تبدو الأمور وكأن الدولة هي التي تقرر وتنفذ. والهدف من إدارة الظل هذه أن تكون مرحلة انتقالية باتجاه الخصخصة.

2-الأزمة المالية – الاقتصادية وآثارها

من 1992 إلى 1998:

بسبب السياسات المالية والاقتصادية تفكك نسيج المجتمع وتفسخ. فقلد تقلصت رقعة الشرائح الوسطى فيه إلى حدود ضيقة جداً. واتسعت دائرة الفقر حتى بات أكثر من 70% من الشعب يعيشون تحت خط الفقر وما دون هذا الخط. وتركزت الثروة في أيدي حفنة رأسمالية مضاربة لا تتجاوز نسبتها 3% من الشعب اللبناني، وتستحوذ على 80% من الودائع، وعلى مثلها من القروض التي لا تستخدم إلا في مجالات المضاربة.

وانخفضت بسرعة كبيرة معدلات النمو، ثم تلاشت تماماً ابتداءً من العام 1997. وتبددت قوى الإنتاج بالهجرة والبطالة.

إن مقارنة سريعة بين ما كنا عليه في العام 1992 – بعد الحرب – وما صرنا إليه في نهاية العام 1998، بعد ست سنوات من حكومات "النهوض الاقتصادي" تبين بوضوح حقائق مفجعة، هي وجه من وجوه تركة ثقيلة ستستمر آثارها لأجيال.

كان الدين العام أقل من 2000 مليون دولار، فارتفع إلى أكثر من 20000 مليون دولار أو يزيد، أي أنه ارتفع بنسبة تفوق الـ1000% خلال ست سنوات فقط؟

-كانت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي القائم في حدود 45%، فارتفعت إلى 123%.

-وبسبب السياسة النقدية التي نفذها البنك المركزي بما يتلاءم والسياسات المالية والاقتصادية المتبعة خلال تلك السنوات، ثم ضخ حوالي 8000 مليون دولار من شرايين الاقتصاد الوطني إلى صناديق رأس المال المضارب في الداخل والخارج. وفي نهاية العام 1998 كانت نسبة 26% من الدين العام – أي 6800 مليار ليرة – تعود إلى هذه السياسة النقدية التي جعلت كبار المودعين يستأثرون بحوالي ربع الناتج المحلي على شكل فوائد.

-وانخفضت التغطية على الليرة بالعملات الأجنبية والذهب من 150% إلى أقل من 4%.

-وارتفع الدين العام بالعملات الأجنبية من حوالي 350 مليون دولار إلى ما يقارب الـ5000 مليون دولار.

-بلغت كلفة الدين العام إلى مجمل واردات الخزينة في العام 1998، 93% بحسب الأرقام التي كان يروج لها أهل الحكم أنفسهم. وبالأرقام الحقيقية فإن النسبة ترتفع إلى ما فوق الـ100%.

-باتت الأسرة اللبنانية تدفع أكثر من 5000 دولار سنوياً فوائد على الدين العام، أي أكثر من 600000 ليرة شهرياً، وهو ما يزيد عن ضعفي الحد الأدنى للأجور.

-عمت البطالة، وتصاعدت وتيرة الهجرة، من 24000 مغادر في العام 1992 إلى 180000 في العام 1998.

وباختصار فإن ما حصل في السنوات الماضية كان، وبكل المعايير، جريمة مروعة بحق شعب وبحق وطن، نفذت بوعي وبرودة وإصرار. والسؤال الذي يجب أن يطرح هو: كيف نفذت تلك الجريمة المتمادية، ولماذا نفذت؟ إن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال تساعد في فهم حقيقة السياسة المالية الاقتصادية منذ العام 1992 إلى الآن، وفي إدراك أهداف هذه السياسة.

نفهم الآن مغزى ذلك الدفع الرهيب إلى الاستدانة ( وإعادة هيكلة الدين – والخصخصة) بما يشير إلى أن هذه السياسة لم تكن مجرد أخطاء في ترتيب الأولويات وفي الأداء؛ بل كانت استجابة واعية لكل إملاءات العولمة والشرق أوسطية كما تبين الصفحات التالية.

الإنقاذ والتغيير والإصلاح:

إن التغيير الذي حصل في رئاسة الجمهورية وفي الحكومة منذ حوالي السنة جاء تحت وطأة الانهيار الذي وصلت إليه البلاد بعد تسع سنوات من عمر "الجمهورية الثانية".

كان الانهيار شاملاً في كل المجالات وعلى كل صعيد:

في المالية العامة، بحيث بلغت البلاد حد الإفلاس.

في الوضع الاقتصادي الذي بلغ مرحلة الاختناق الكامل، وتدنت نسب النمو إلى ما دون الصفر.

في الأوضاع الاجتماعية، حيث توسعت دائرة الفقر، وتفاقمت بشكل خطير ظاهرة التفاوت بين الطبقات والشرائح الاجتماعية. وازدادت ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة وهجرة الشباب إلى الخارج.

غير أن المسألة الأشد خطراً تمثلت بانهيار كل القواعد والضوابط الدستورية والقانونية والأخلاقية في ممارسة السلطة والسياسية، وفي عمل الإدارات العامة.

إن الخطاب الذي ألقاه رئيس الجمهورية في مجلس النواب تضمن عدداً كبيراً من العناوين العامة، من حيث تشخيصه للواقع ومن حيث توجهاته الإصلاحية، وهذا ما أكد عليه البيان الوزاري أيضاً. ولكن بعد مضي سنة على هذا التغيير نلاحظ ما يلي:

أ-لقد تعثر الإصلاح في القضاء والإدارة والمؤسسات العامة، وتمكنت الطبقة السياسية – في "المعارضة" – من التصدي لكل محاولة إصلاحية وسد منافذ التغيير.

ب-وتعثرت أيضاً المحاسبة، فتوقفت عملية "فتح الملفات" عند عدد من الموظفين. أما كبار الفاسدين ممن تولوا السلطة في السابق فقد احتموا خلف حصونهم الطائفية، وتمكنوا من التصدي لشعار "الشفافية وسيادة القانون"، وهو الشعار الأبرز الذي رفعه الحكم الجديد.

لقد كان التصويت على اقتراح قانون الإثراء غير المشروع في مجلس النواب برد هذا الاقتراح خير دليل على تماسك الطبقة السياسية وشراستها في مواجهة كل بادرة للإصلاح والمحاسبة.

ج-كذلك تمكنت الطبقة السياسية نفسها – في "المعارضة" وفي السلطة – من وأد كل بادرة للإصلاح السياسي. فهي، وبالرغم من خلافاتها حول تقسيم الدوائر الانتخابية، توحدت في مواجهة عدد من المطالب المتواضعة لإصلاح قانون الانتخاب، مثل الاعتراف بحق الشباب من سن 18 في الانتخاب وجعل لبنان دائرة انتخابية واحدة لانتخاب ولو نسبة ضئيلة من النواب.

لقد أظهرت التجربة خلال السنة المنصرمة من عمر الحكم الجديد، وبما لا يترك أي مجال للشك، أن الإصلاح في الإدارة والقضاء لا يمكن أن يحقق أية نتيجة أذا لم يبدأ بالإصلاح السياسي.

إن الإصلاح السياسي لا يتحقق إلا من خلال عملية واعية وطموحة لتبديل الصراع ومضمونه في المجتمع والحياة السياسية. إن مصادرة الصراع الاجتماعي والسياسي لمصلحة العصبيات المتخلفة، الطائفية والمذهبية، يهدد وجود الوطن ذاته في ظروف التحولات الإقليمية والدولية المحيطة. إن الصراع الحقيقي الذي يصون الوطن ويعزز السلم الأهلي هو ذلك الذي يجب أن يقوم ويطغى على ما عداه بين المجتمع بشرائحه الوطنية من جهة، وبين الطبقة السياسية المتخلفة والفاسدة، والمدعومة من قبل القوى الخارجية من جهة أخرى.

إن الضمان الحقيقي لتصحيح الصراع وتأكيد سلميته وديمقراطيته هو في إطلاق الحريات العامة – الحريات السياسية والنقابية والإعلامية – وصونها.

إن العلة الأساسية في فشل الإصلاح خلال السنة المنصرمة من عمر الحكم الجديد تكمن في تجاهله لهذه الحقيقة وفي عدم توجهه مباشرة إلى الشعب، وفي بقائه أسير "اللعبة" السياسية التقليدية.

وإذا كان الحكم الجديد يتحمل مسؤولية كبيرة في هذا المجال، فإن القوى التقدمية اللاطائفية تتحمل مسؤولية مماثلة.

إن التحدي الأساسي الذي يوجهنا، والذي يجب أن نتصدى له بشجاعة ومسؤولية، هو في أن تتحول القوى التقدمية من مجرد حالات اعتراض متناثرة إلى حركة معارضة. وأن تحول خطابها ومواقفها الاعتراضية إلى مشروع سياسي وطني وعصري.

ب-القضايا والعناوين العالمية وتأيراتها

أولاً": العولمة:

يجري التعامل مع "العولمة" في السياسة الرسمية اللبنانية كمعطى عالمي جديد لا يمكن مقاومته، ولا التكييف معه بما يخدم مصالحنا الوطنية أو بما يخفف من انعكاساته الضارة.

غير أن "العولمة" ما هي إلا بداية مرحلة جديدة في الرأسمالية الاستعمارية، تعمل على إعادة تنظيم اقتصاديات دول العالم الثالث بما يتلاءم مع أولويات الشركات المتعدية الجنسية ومصالحها، وبما يكرس تبعية دول العالم الثالث للمركز الرأسمالي ويمنع تنميتها المستقلة. وعلى أرض الواقع نلاحظ ما يلي:

-تزايد أزمة المديونية في بلدان العالم الثالث لمصلحة الدول والمؤسسات المالية المتركزة في الغرب الصناعي ولا سيما الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. ويلعب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي – اللذان باتا يعرفان عند البعض بـ"الترسانة الاقتصادية" للغرب الصناعي – دوراً خطيراً في هذا المجال لجهة انخفاض معدلات النمو، بل وانعدامها في دول العالم الثالث ولجهة تمكين أواصر تبعية هذه الدول للغرب الصناعي.

-إن ما "تنصح" به، بل وتفرضه هذه المؤسسات على البلدان المدينة عبر سياسات التكييف وإعادة الهيكلة يؤدي إلى رفع كل أشكال الدعم عن السلع الضرورية وعن التعليم والطبابة، ويزيد من بؤس الغالبية الساحقة من المواطنين.

-إن تعميم مبدأ "اقتصاد السوق"، وفرضه قسراً عن طريق الاتفاقات والمؤسسات الدولية – كمنظمة التجارة العالمية والشراكة الأوروبية مثلاً  - وعن طريق القوانين التي يجري استصدارها عنوةً وبالإكراه - كقانون "حماية الملكية الفكرية والأدبية" مثلاً – يؤديان إلى ضرب قوى الإنتاج في هذه البلدان، والتي منعهها من امتلاك أسباب التقدم العلمي والتكنولوجي وفرض التخلف عليها.

أما من حيث البعد السياسي، فإن "العولمة" هي الغطاء الإيديولوجي "للنظام العالمي الجديد" الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، التي تعمل على خلق "وطن" جديد لا ينتمي إلى الجغرافيا والتاريخ: وطن دون حدود ودون تراث.

وفي الجانب السياسي أيضاً استبدلت "العولمة" الحلف الاطلسي بالأمم المتحدة كمرجع للشرعية الدولية. وهي أذ تستبدل قرارات الحلف ونصوص ميثاق المنظمة الدولية بقرارات مجلس الأمن، فإنها تسقط شرعية الكيانات والحدود وتعيد رسم الجغرافيا في العالم بالقوة والعنف، وبما يتلاءم ومصالحها. هذا ما جرى في بعض بلدان أوروبا الشرقية، كيوغوسلافيا مثلاً، وهو الذي يجري في عدد من مناطق أفريقيا، وهذا ما يخطط له ويعد للبلدان العربية كافة من العراق في الشرق إلى المغرب والجزائر في الغرب تحت شعار "السلام". ولبنان يقع في قلب هذه المنطقة وفي قلب هذا "السلام".

ثانياً: الخصخصة:

إن الدعوة إلى الخصخصة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأيديولوجية العولمة. فهذه الإيديولوجية تدعو إلى تعطيل دور الدولة الاقتصادي وسياستها الحمائية القومية وإلى تفكيك هياكل الاقتصاديات الوطنية. من هذا المنطلق نتساءل عن أبعاد خصخصة قطاع الدولة الاقتصادي.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو، هل أن مشكلة القطاع العام هي في من يملك هذا القطاع، أم في من يديره وفي كيفية إدارته؟ وبالتالي هل يكون العلاج بتغيير الملكية، أم بتطوير وسائل جديدة للإدارة؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب فهماً عميقاً لدور الدولة، وعلاقة هذا الدور بالاستقرار الاجتماعي. كما تتطلب معرفة بتطور هذا الدور حتى في أنظمة الليبرالية الاقتصادية: فحين كانت آليات النظام الرأسمالية تقسم المجتمع، وتعمق الهوة فيه بين الفقراء والأغنياء، دافعة إياه باتجاه الاضطرابات الداخلية والحروب الأهلية، كانت الدولة تتدخل من أجل توفير المناخ الملائم للسلم الأهلي، والتجانس الاجتماعي، والتعايش بين الطبقات. لقد كان تدخل الدولة من أجل إدارة الصراع الاجتماعي وفق قواعد الديمقراطية السياسية. ولا يفوتنا في هذا المجال الرد على ضلال شائع، وهو أن ثمة تلازماً أصلياً وطبيعياً بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية. فالحق أن الليبرالية الاقتصادية كانت في الأصل ضد الليبرالية السياسية، وضد الديمقراطية. والدولة الديمقراطية لم تنشأ بسبب "إنسانية" الرأسمالية، بل بفعل تطور نضال الشرائح الدنيا من المجتمع عبر تجمعاتها ونقاباتها العمالية والحرفية والمهنية والفلاحية.

والحق أننا لا ندعو إلى موقف إيديولوجي صرف من الخصخصة، وإنما إلى خيارات عاقلة وواقعية وشجاعة، في وطن صغير يفتقر إلى الموارد والرساميل، لكنه يملك الإمكانات البشرية ويستطيع أن يطورها لتشكل العنصر الأساسي في زيادة الإنتاج وتحقيق النمو.

والخطوة الثانية في تطور دور الدولة كانت في المجال الاقتصادي. ففي البلدان الحديثة الاستقلال كان التخلف الاقتصادي من المشكلات الأولى التي واجهتها هذه البلدان. وبسبب ضعف الرأسمالية المحلية، أو بسبب تبعيتها لرأس المال الأجنبي، كان ضرورياً أن تتدخل الدولة مالكة لأهم الخدمات وقطاعات الإنتاج وقائدة للتطور الاقتصادي وتخطيط التنمية. ذلك أن تجريد الدولة من أدوات سيطرتها على عوامل التشوه التي يحدثها إطلاق الرأسمالية بلا ضوابط، وتجريدها من أدوات قيادتها لعملية التنمية، إذ يشرعان كل الأبواب للعنف الداخلي بمخاطره القاتلة بالذات على لبنان، فإنهما يشرعان الأبواب لسيطرة رأس المال الأجنبي ومصادرته لكل فرص التنمية الاقتصادية.

ثالثاً: التسوية:

هي في حقيقتها إعادة تشكيل النظام الإقليمي للشرق الأوسط بما يتلاءم و"العولمة" أو النظام العالمي الجديد، وعلى صورته، وذلك في بعديه الاقتصادي والجيوسياسي.

ففي الجانب الاقتصادي، ترمي عملية التسوية إلى سيطرة رأس المال من خلال "المركز" الإسرائيلي على اقتصاديات المنطقة، وإلحاق هذه الاقتصاديات بذلك "المركز" الإقليمي و"بالمركز" العالمي (أي الولايات المتحدة). هذا ما يلح إليه كتاب شيمون بيريز "الشرق الأوسط الجديد"، وهذا ما يفصح عنه بوضوح مشروع "الإندماج الإقليمي" الذي عرضته إسرائيل في المؤتمر الاقتصادي الذي انعقد في المغرب في خريف العام 1994.

وأما في الجانب السياسي، فإن التسوية التي يروج لها تحت شعار "السلام" ليست في الحقيقة نهاية للحرب الإسرائيلية ضد الدول العربية والشعب العربي. فبيريز في كتابه المذكور أعلاه يؤكد على ضرورة الإبقاء على جيش ضخم "رغم كلفته الهائلة" لأن مثل هذا الجيش لا يزال حقيقة "من حقائق الحياة التي لا يمكن تجاهلها في الشرق الأوسط"، حتى مع بناء "السلام" العتيد. وها هو باراك يعود العام الماضي من الولايات المتحدة على ظهر سبعين طائرة ف 16، مؤكداً من جديد أن "التسوية" لا تمس تطوير الترسانة العسكرية الإسرائيلية، بما في ذلك ترسانتها النووية المتعاظمة بالدعم الأميركي المتواصل.

كما أن ما جرى في عدد من بلدان أوروبا الشرقية، وما يجري في طول القارة الأفريقية وعرضها، إنما يقدم نماذج صارخة لمشاريع الولايات المتحدة الأميركية و "إسرائيل" في الوطن العربي. وفي ضوء هذا ندرك حقيقة الحلف التركي – الإسرائيلي، وملابسات القضية الكردية، وما يفرض على العراق من حصار وإبادة بشرية باسم "الشرعية الدولية"! وفي ضوء هذا أيضاً يمكن أن نرى أبعاد الاضطربات الإثنية والطائفية التي يجري تسعيرها في عدد من الدول العربية تحت شعار "حماية الأقليات" و"التنوع الإثني".

التوجهات الأساسية لعمل "حركة الشعب":

بعيش لبنان – كما بينا أعلاه – أزمة وطنية خطيرة لا تزال تهدد وحدة كيانه ووجوده. وتستلزم مواجهة هذه الأزمة الوطنية حفز الإرادة الوطنية الجامعة للشعب اللبناني واستنفاره لإنقاذ الوطن وصونه. ومثل هذا الاستنفار يتطلب بالدرجة الأولى تحرير الإنسان من كل عوامل المصادرة، وفي طليعتها المصادرة على هويته الفكرية والسياسية بالقيد الطائفي المفروض عليه بالولادة.

إن التغيير الذي يجب أن يصيب النظام السياسي هو عملية صراع يجب أن تستنفر فيه طاقات الشعب في مواجهة القوى الرجعية المسيطرة على النظام. وهذا هو الدور الأساسي الذي يجب أن تقوم به القوى التقدمية الحديثة. وهو بالضبط الدور الذي يجب أن تقوم به "حركة الشعب".

1-وفي هذا المجال تؤكد "حركة الشعب" توجهها الواضح والثابث من أجل إطار تلتقي فيه كل القوى السياسية التقدمية اللاطائفية وغير الخاضعة لسيطرة رأس المال، كجزء من خطة التصدي لتحالف الطائفية ورأس المال.

2-وهنا لا بد لنا أيضاً من تعميق تحليلنا لواقع المجتمع اللبناني من حيث تركيبته الاجتماعية، وذلك من أجل إحداث فرز جديد بين الشرائح الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، وبين تلك الشرائح المستفيدة من واقع النظام والمدعومة من قبل النفوذ الخارجي القابض على الوطن.

3-وفي ضوء هذا الفرز يجب على "حركة الشعب"، وبالتحالف مع سائر القوى الوطنية، أن تتوجه إلى العمل في أوساط الشعب من أجل لم شتاته وتوحيد طاقاته. وعلى هذا العمل أن يرتكز على تطوير دور مؤسسات المجتمع المدني اللاطائفية والمستقلة عن الرأسمال الأجنبي.

كما أن على "حركة الشعب" أن تتوجه إلى خلق مثل هذه المؤسسات حيث لا تكون قائمة.

4-إن طرح موضوع الحريات العامة وخوض النضالات من أجلها يشكل محوراً أساسياً في عمل "حركة الشعب"، وذلك من أجل الإسهام في تحرير المواطن من كل عوامل القهر والاستلاب التي تكبل وعيه وإرادته. وفي هذا المجال تضع "حركة الشعب" في أولويات برنامجها، النضال من أجل قانون عصري للأحزاب والجمعيات، ومن أجل تحرير الإعلام من سيطرة احتكارات السلطة ورأس المال والمؤسسات الطائفية.

5-وفي ظل احتدام السجال حول قانون الانتخابات النيابية، وفي مواجهة الطبقة السياسية التي تعمل على إعادة إنتاج الصيغة الطائفية، تعمل الحركة على إداخل تعديلات أساسية لفتح ثغرة في جدار النظام الطائفي على طريق تحقيق الديمقراطية الحقيقية.

إن تحويل الوطنية من مجرد شعارات ومواقف متناثرة إلى خيار واقعي، من خلال مشروع سياسي اجتماعي ثقافي، هو المهمة الكبرى التي يجب أن تتصدى لتحقيقها "حركة الشعب"، لأن هذه هي النقطة المفصلة في عملية تكوين تحول الكيان إلى وطن وفي تحول الرعايا إلى مواطنين.

إن هذه النقاط تشكل العناوين الرئيسية لبرنامج عملنا في شتى الميادين من أجل تحقيق أهدفنا الوطنية، ومن أجل التصدي للمسائل الرئيسية التي يجب علينا معالجتها وهي تندرج في السياق التالي:

أولاً: في المسألة الوطنية:

1-في المواطنة:

-العمل على صون وحدة لبنان، واستقلاله، وعروبته، وتأكيد سيادته الوطنية على كل الأراضي اللبنانية.

-السعي إلى إلغاء الهيمنة الطائفية والمذهبية، مدخلاً لإقامة نظام سياسي واجتماعي لاطائفي ديمقراطي علماني.

-الحفاظ على الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الفكر والتعبير وحرية إنشاء نقابات وأحزاب وكل ما من شأنه تعزيز الديمقراطية في لبنان بوصفها عاملاً أساسياً في تطوره وازدهاره.

ب-في مسألة التحرير:

-النضال لتحرير الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الإسرائيلي، بكل الوسائل المتاحة: العسكرية والسياسية والديبلوماسية، ودعم المقاومة بمختلف أشكال الدعم...مع الحرص على تعميم ظاهرة المقاومة لتشمل مختلف الفئات والأحزاب الوطنية.

-ممارسة الضغوط على السلطة اللبنانية للاضطلاع بواجبها في تعزيز إمكانيات الصمود لشعبنا في الأراضي المحتلة وفي المناطق التي تتعرض باستمرار للعدوان الصهيوني.

-رفض إبرام أي معاهدة صلح أو سلام أو تطبيع مع "إسرائيل"، باعتبار هذا الكيان نقيضاً لمطامح العرب في الوحدة والتحرر والتنمية المستقلة، والعمل على فضح كل المساعي الإمبريالية لإدخال "إسرائيل" في المستقبل شريكاً في أي معاهدات اقتصادية أو أمنية في "الشرق الأوسط".

ج-في الهوية والعلاقات العربية:

-العمل على تعزيز علاقات لبنان بمحيطه العربي، على أساس المصالح المشتركة والتاريخ المشترك والعدو المشترك.

-رفض التوطين، والعمل على إعطاء الشعب الفلسطيني في لبنان كافة حقوقه المدنية لحين العودة إلى وطنه فلسطين.

-السعي إلى إقامة نظام عربي جديد ذي مضامين توحيدية اقتصادية وثقافية وإعلامية وأمنية وسياسية، يتصدى لسياسات الهيمنة التي تنتهجها الدول الإمبريالية وترسانتها الاقتصادية المعولمة.

-العمل على تغيير أسس العلاقة اللبنانية – السورية الحالية القائمة على التوكيل والوصاية، والسعي إلى إخراجها من دائرة الخلاف السياسي اليومي، وأرساء هذه العلاقة على أساس الاحترام المتبادل والسيادة واستقلال البلدين في إطار القوانين والأعراف والمؤسسات والمصلحة القومية المشتركة.

ثانياً: في الإصلاح السياسي والإداري:

إن معالجة الفساد الإداري والسياسي تقتضي معالجة الفساد السياسي؛ فإصلاح المؤسسة السياسية يشكل المدخل لإصلاح الإدارة.

ا-إلغاء الطائفية السياسية:

إن إلغاء الطائفية في الدولة والمجتمع شرط لتحقيق التقدم في المجتمع اللبناني وتحقيق السيادة والديمقراطية.

ب-إقرار قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية وتنظيم قضاء الأحوال الشخصية.

ج-إقرار قانون انتخاب نيابي جديد وفقاً للأسس التالية:

-تحرير قانون الانتخاب من كل قيد طائفي.

-جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة على قاعدة اعتماد نظام التمثيل النسبي واللائحة المغلقة.

-تخفيض سن الاقتراع إلى ثمانية عشرة عاماً.

-اعتماد البطاقة الانتخابية والمكننة الحديثة في عمليات الفرز.

-تأمين مراكز الاقتراع في أماكن السكن.

-الاستخدام المتساوي والمجاني لوسائل الإعلام الرسمية وتوفير فرص متكافئة في الإعلام الخاص لكل اللوائح في الدعاية الانتخابية.

-اعتبار الرشوة جناية، والتشدد في معاقبتها.

-إنشاء هيئة وطنية غير حكومية للإشراف على الانتخابات.

-تحديد سقف منخفض للنفقات الانتخابية.

-إلغاء الضمانة المالية.

ثالثاً – في إصلاح التمثيل الشعبي والتنظيم الإداري:

أ-زيادة عدد المحافظات لتصبح أكثر تطابقاً مع الواقع الاجتماعي الجديد للبلاد.

ب-إنشاء مجالس محلية إقليمية منتخبة لأربع سنوات يكون من ضمن صلاحياتها إقرار الموازنات المحلية وتنفيذها، بما يعمم مبدأ مشاركة المواطن في إدارة شؤونه العامة.

ج-وضع قانون جديد للبلديات يعزز صلاحيات المجالس البلدية ويوفر لها الحد المطلوب من الاستقلالية للقيام بدورها كهيئات تمثيلية محلية.

رابعاً: في الإصلاح القضائي:

أ-الانطلاق من مبدأ تحقيق الاستقلال التام للسلطة القضائية عن باقي السلطات.

ب-جعل مجلس القضاء العلى المرجع الوحيد لتعيين القضاة وترقيتهم وإنهاء خدماتهم، وحصر صلاحية وزير العدل بتوجيه النيابات العامة.

ج-تحرير القضاء من كل الضغوط، واستعادة استقلاليته وتعزيزها باخيار أعضاء مجلس القضاء الأعلى من قبل الجسم القضائي، وتفعيل الرقابة القضائية المستقلة.

خامساً: في الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي:

أ-إعادة رسم خيارات لبنان الاقتصادية واستبدال المشروع الإعماري بمشروع اقتصادي اجتماعي تنموي يعيد ترتيب الأولويات ويحقق التوازن الإنمائي ويدعم القطاعات الانتاجية ويعطي أهمية للثروة البشرية باعتبارها الركن الأساسي في بناء الاقتصاد.

ب-وضع خطة اقتصادية اجتماعية لتحقيق الأهداف التالية:

-وقف الهدر والسرقات والسمسرات.

-استرداد حقوق الدولة في الأملاك العامة.

-تحقيق نمو ملموس في الناتج المحلي.

-تأهيل البشري والتقني والمادي.

-ترشيد إنفاق العائد الاقتصادي لهذا النمو بالتوازن بين الاستهلاك والادخار والاستثمار.

-تعزيز دور الدولة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.

-تشكيل المجلس الأعلى الاقتصادي والاجتماعي.

-وضع سياسة ضريبية جديدة لا تساوي بين الفقير والغني، وتحفز الرأسمال على التوظيف في القطاعات الإنتاجية.

-دعم القطاعات الإنتاجية وتوجيهها بإجراءات متعددة في التمويل والسياسة الضريبية.

سادساً: تنظيم الإدارة:

أ-وضع قانون عصري جديد ينظم الإدارة ويعتمد تبسيط أجهزتها وتحديثها وإجراء إصلاح جذري في بنية الإدارة، وحصر اختيار موظفي الإدارات والمؤسسات بأجهزة الرقابة.

ب-إلزام الإدارة بتنفيذ القرارات الإدارية الصادرة عن مجلس شورى الدولة.

سابعاً: في التعليم والثقافة:

أ-تعزيز التعليم الرسمي، وفرض التعليم على المستوى الإعدادي على الأقل، والاهتمام بتوسيع التعليم المهني والتقني ونشره.

ب-تعزيز استقلالية الجامعة اللبنانية، وتعديل مناهجها، والحد من التدخل السياسي والطائفي في شؤونها بحيث تكون الجامعة الأولى في لبنان.

ج-رفع مستوى الثقافة في لبنان، وتعزيز مستوى المثقف والفنان وإنشاء "بيت الكاتب اللبناني".

ثامناً: قضايا عامة:

-إيلاء أهمية لموضوع المهجرين، والعمل على إعادتهم إلى مناطقهم وبلداتهم وقراهم، وتعويضهم التعويض المنصف والعادل، وإنجاز هذه العودة بالسرعة القصوى الواجبة.

-وضع سياسة صحية فعالة وإنشاء نظام صحي استشفائي يطال كافة المواطنين ويقوم على البطاقة الصحية وتعزيز المستشفيات الحكومية وتوسيع انتشارها.

ج-تعزيز مؤسسات المجتمع المدني غير الطائفية (مع التنبيه إلى خطورة التمويل الخارجي لبعض هذه المؤسسات، بما يحرفها عن توجهاتها الوطنية)، وتفعيل الحركة النقابية وترسيخ دورها واحترام استقلاليتها.

د-وضع سياسة بيئية واضحة وفعالة وإصدار تشريعات لحماية البيئة.

هـ-إيلاء قضية المرأة وحقوقها الاقتصادية والسياسية والقانونية الأهمية اللازمة، والعمل على إزالة كل أشكال التمييز في معاملة المرأة، ووضع سياسة واضحة تتعلق بقضايا الأمومة والطفولة.

و-الاهتمام بقضايا الشباب، وفتح المجالات أمامهم من تعليمية ومهنية ورياضية، وتأمين مجالات العمل لهم وشروط اسهامهم في تجديد الحياة السياسية في لبنان.

ز-الالتزام بالحريات العامة وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية.