الأدب الروسي بين العراقة والحداثة

طباعة

إن الأدب الكلاسيكي سيبقى حياً كما الحنين في القلب إلى دفء أزقة الطفولة

يعيش الأدب الروسي الحديث حالة فريدة من نوعها مقارنة بالأدب الكلاسيكي الذي اعتاد القراء في روسيا وفي مختلف دول العالم على تلقيه من الأدباء الروس الكبار. وعوضاً عن الروايات الرائعة ذات الأبعاد الفكرية والفلسفية والتربوية، والمصاغة بأسلوب فني مميز، ما جعل الأدب الكلاسيكي الروسي يحصل على موقع مميز في الأدب العالمي، تنتشر اليوم الروايات البوليسية وقصص العشق والغرام وما إلى ذلك من أدب لا شك بأنه يعكس الواقعين الاقتصادي والاجتماعي لروسيا.

وللإنصاف يجب الإقرار بأن ظاهرة رواج الكتب التي تتصف بتدني مستواها الأدبي والموضوعي انتشرت بشكل واسع خلال السنوات العشر الأولى من استقلال روسيا، نتيجة تأثر واضح بالأسلوب الغربي، الذي يعتمد في أغلب الأحيان على حبكة مثيرة ومشوقة، بغض النظر عن طبيعة القصة التي تتناولها الرواية. في الوقت نفسه فإن انتشار الجريمة المنظمة في روسيا وظهور المافيا الروسية أنتج توجهاً جديداً لدى الكتاب الروس الذين وجدوا في مغامرات رجال المافيا، موضوعاً مثيراً يفرض نفسه على القلم والورقة، من هنا جاءت ظاهرة الكتب والروايات البوليسية.

من جانب آخر تميزت مرحلة السنوات العشر لاستقلال روسيا بغياب دعم الدولة للمثقفين والكتاب، فاضطر بعض هؤلاء لتبرير تدنى مستوى المواضيع التي يعرضونها في رواياتهم إلى الأوضاع الاقتصادية السيئة وحاجتهم إلى كتابة روايات تتناسب مع سياسة السوق، التي تتحكم فيها مؤسسات الدعاية والترويج بحجم مبيعات هذا الكتاب أو ذاك. ولما كانت مؤسسات النشر هي نفسها مؤسسات الدعاية في بعض الأحيان، ومرتبطة معها في أحيان أخرى، فإن هذه المؤسسات تفرض على الأديب الموضوع الذي تريده هي، والذي سيحقق مبيعات مربحة، فالربح هو الحكَم الرئيسي بالنسبة لهم على الكتاب، وبغض النظر عن البعد الفكري أو الأدبي أو الفلسفي أو التربوي الذي يتضمنه.

أما الكتّاب فقد كانوا في السابق يُصنفون، وينتمون، إلى الطبقة العليا في المجتمع، بينما لم يكن الحصول على عضوية إتحاد الكتاب بالأمر السهل، وكثيراً ما كان الكتّاب من الشباب يمضون عمرهم في تقديم الأعمال الإبداعية للحصول على صفة )عضو إتحاد الكتّاب(. وكان أعضاء الاتحاد يتمتعون بامتيازات كثيرة: فإذا مرض أحدهم هناك مشاف خاصة بهم، وإذا احتاج لكتاب ما، فسيجده في مكتبة خاصة بالاتحاد تحتوي على المسموح والممنوع والمفقود في الأسواق، وللاستجمام كانت هناك منتجعات خاصة لهم على بحري البلطيق والأسود، من أفضل وأجمل المنتجعات، و...و...و...

Image

جاءت التغييرات ودمرت هذه المؤسسة. انقسم اتحاد الكتّاب إلى اتحادين متنافسين، وأُغلقت عملياً كل دور النشر الحكومية التي كان عددها يزيد عن الستة آلاف. وأخيراً أصبح السوق والمبدأ التجاري هو الذي يحدد موقع الأدب والمستوى المعيشي للكاتب أو الأديب. وبعد أن كانت الدولة شبه مسيطرة على أسواق الكتاب، أصبحت دور النشر الحديثة تتحكم بـ60 في المئة من أسواق الكتب، فتمتلك المطابع ومصانع الورق، وشبكات من المكتبات للتوزيع، هاجسها الرئيسي في ذلك الربح. والأهم أن السيطرة على الكتاب تعني السيطرة على ذوق المجتمع والتأثير عليه، ما يعني السيطرة على وعي المجتمع، أو التأثير عليه كحد أدنى.

إلا أن عشاق الأدب الروسي، الذي يشكل جزءاً رئيسياً من الأدب الكلاسيكي العالمي، يتخذون الخطوات المتاحة لحماية الكتّاب الروس من سيطرة رأس المال، ولتحفيزهم على التمسك بالمدارس الأدبية الروسية الرائعة، أعلنت بعض المنظمات الأدبية عن جوائز للكتاب، تبدأ من زجاجة نبيذ فاخر، وقد تصل إلى 50 ألف دولار، التي تمنحها أكاديمية أدبية روسية تم تأسيسها حديثاً. وهناك جائزة بيلكين الأدبية )الاسم المستعار الذي استخدمه بوشكين في بعض أعماله(.

Image

على جبهة أخرى، وبهدف إحياء الأدب الكلاسيكي، أُعلن منذ شهور في روسيا عن افتتاح موقع على شبكة الإنترنت يتضمن كل أعمال الأديب الروسي الشهير ليف تولستوي، بأربعين لغة. وشاركت في إعداد الموقع المكتبة الروسية الحكومية )مكتبة لينين سابقاً(، ومتحف مقر إقامة تولستوي )ياسنايا بوليانا( ومستشارية السفارة البريطانية في موسكو.

وكما يقول البعض فإن فكرة تأسيس الموقع على شبكة الإنترنت، هو رد مماثل )للحداثة والتقانة( وما تركته من آثار على القراء. ويأمل أصحاب الفكرة أن تجذب عبارة )تولستوي أون لاين( جيل القراء الشباب، الذي أخذ يبتعد عن الواقع في عصر الإنترنت، متجهاً نحو الحياة الافتراضية بكل أشكالها، فيبني العلاقات بواسطة مختلف برامج التعارف والمحادثة، ويتلقى المعلومات من شتى المواقع، ويطلع على الصحافة، ويشاهد التلفاز، ويعد بحثه العلمي الدراسي، وغير ذلك من أعمال، كل هذا أمام شاشة الكمبيوتر التي أصبحت عالمه الصغير الذي يطل منه نحو العالم الكبير دون عناء.

لكن هل سيحقق مشروع )تولستوي أون لاين( النتائج التي يرجوها القائمون عليه؟ وهل سيقبِل جيل الشباب على قراءة الأدب الكلاسيكي عندما يدخل إليه عبر الإنترنت؟ بكل أسف الإجابة واضحة. فحتى الكتّاب الشباب، حديثو العهد، الذين التقى بهم الرئيس بوتين مؤخراً، قليلاً ما يقرؤون الأدب الكلاسيكي على ما يبدو. ويشتكون من أن أعمالهم الأدبية لا تحمل صفة )المهنة(، وبأنهم يزاولون مختلف الأعمال لكسب لقمة العيش، من حدادة، وإعلام ودعاية وغيرها من حرف ومهن وأعمال. لكنهم يتجاهلون وينسون أن الأديب العظيم تشيخوف كان يعالج الناس في أوقات فراغه من كتابة الأعمال الأدبية، والأديب ليف تولستوي كان يقص العشب ويصلح أسقف المنازل. وهناك غيرهم من الأدباء الذين مارسوا مختلف الأعمال لكسب العيش، دون أن يتأثر أدبهم بذلك.

في عصر التنافس بين العراقة والحداثة، في عصر الإنترنت، وتراجع حاجة الإنسان إلى الورقة والقلم والكتاب، يبقى للأدب الكلاسيكي الروسي موقعه المميز، وهو يدخل في حرب من أجل الحفاظ على هذا الموقع، وليس من أجل الموقع بحد ذاته، بل لأن ذلك الأدب نابع من الروح وموجه إلى الروح البشرية، لم يتأثر برؤوس الأموال ولم يولد من أجل مصلحة مادية. بأي حال فإن هذا الأدب، وإن تراجع اهتمام القارئ الروسي به، إلا أنه لم يمت، وسيبقى حياً، مثلما هو حي الحنين في قلب وروح كل إنسان إلى دفء أزقة الطفولة.

 

طه عبد الواحد